حصاد جلسات مجلس النواب خلال انطلاق دور الانعقاد الخامس من الفصل التشريعي الثاني    وزير الأوقاف والمفتي يؤديان صلاة الجمعة بالمسجد الأحمدي بطنطا.. احتفالا بالعيد القومي للغربية    «العمل» تعلن 4774 فُرصة عمل تطبق الحد الأدنى للأجور في 15 محافظة    «المشاط»: 2.25 مليار دولار تمويلات مُيسرة لقطاع الطاقة المتجددة عبر منصة «نُوَفِّي»    أماكن منافذ «حياة كريمة» في الإسماعيلية.. لحوم وفراخ بأسعار مخفضة    وزير الاتصالات يلتقي مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة للتكنولوجيا    أماكن منافذ بيع لحوم حياة كريمة في الشرقية.. أسعار مخفضة وجودة عالية    مصر ترحب بدعم مجلس الأمن لجوتيريش وتجدد تضامنها معه    "المرصد العربي" يناقش إطلاق مؤتمر سنوي وجائزة عربية في مجال حقوق الإنسان    باحث سياسي: الاحتلال الإسرائيلي عاجز عن دخول لبنان بريا    الكرملين: بوتين لا يعتزم إجراء أية محادثات مع رئيس وكالة الطاقة الذرية    القصف وصل لمنزله.. كواليس هروب نتنياهو إلى الملجأ خوفًا من القتل (فيديو)    تقارير: عمر مرموش يحلم باللعب ل ليفربول أو أرسنال    "تذاع بالمجان".. الاستديو التحليلي لمباراة الأهلي والزمالك في الدوري المصري للسيدات    لاعب الزمالك الجديد: مصر بلد جميل.. وزيزو أفضل لاعب في إفريقيا    لحظات صعبة لمهندس احتجز داخل مصعد عقار بالطالبية    قناة السويس تكشف حقيقة بيع مبنى القبة التاريخي    غدًا.. حفل ختام مهرجان الإسكندرية السينمائي في دورته ال 40    تامر حسني وابنه يظهران بالجلابية البيضاء: «كنا بنصلي الجمعة»    ب«إهداء 350 كتابًا».. جامعة القاهرة تبحث مع «النشر للشعب الصيني» مجالات الترجمة وتبادل الثقافات    "يقترب من مليون".. تعرف على إيرادات فيلم "عاشق" أمس    منظمة الصحة العالمية تحذر من خطر انتشار فيروس ماربورغ القاتل    نائب وزير الصحة: الدولة مهتمة بتعظيم الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين    «بعد التوقف».. سلوت يثير الجدل بشأن تجديد عقد محمد صلاح    خبير: بعض اتهامات القرصنة بين أمريكا والصين غرضها «الدفاع»    انطلاق القافلة الدعوية المشتركة بين الأزهر والأوقاف والإفتاء بشمال سيناء    عاجل.. أول رد من الأهلي على عقوبات مباراة بيراميدز.. طلب خاص لاتحاد الكرة    الإسكان: إزالة مخالفات بناء وظواهر عشوائية بمدن جديدة - صور    السيطرة على حريق بخط غاز زاوية الناعورة بالمنوفية    بالصور- ضبط 4.5 طن لحوم ودواجن فاسدة بالمنوفية    عادل حمودة: أحمد زكي كان يندمج في التمثيل إلى درجة المرض النفسي    أذكار يوم الجمعة.. كلمات مستحبة احرص على ترديدها في هذا اليوم    واعظ بالأزهر: «الوسطية» منهج رباني لإصلاح أحوال الناس    ضبط تشكيل عصابي تخصص في سرقة أصحاب السيارات بالجيزة    بالأرقام.. نتائج فحص حالات لسيارات ذوي الهمم خلال السنوات الثلاث الماضية    حملة للتبرع بالدم في مديرية أمن البحر الأحمر لإنقاذ حياة المرضى    ضمن «حياة كريمة».. فحص 1703 مواطنين في قافلة طبية ببني سويف    فحص 1703 مواطنين في قافلة طبية ببني سويف    الاستعلام عن حالة فتاة سقطت من شرفة منزلها بأكتوبر.. وأسرتها: اختل توازنها    في يوم الابتسامة العالمي.. 5 أبراج تحظى بابتسامة عريضة ومتفائلة للحياة    جيش الاحتلال يصدر أوامر إخلاء عاجلة لسكان 20 قرية في جنوب لبنان    اللجنة الأولمبية الجزائرية: ما يحدث مع إيمان خليف حملة ممنهجة    «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ».. موضوع خطبة الجمعة اليوم    «الأوقاف» تفتتح 25 مسجدًا في عدد من المحافظات اليوم    هيئة الأرصاد تكشف عن موعد بدء فصل الشتاء 2024 (فيديو)    تحقيق عاجل في مصرع وإصابة 7 في انقلاب سيارة ميكروباص بطريق مصر إسكندرية الصحراوي    الأنبا عمانوئيل يهنئ رئيس الجمهورية وقيادات الدولة بذكرى انتصارات أكتوبر المجيدة    أسعار الأسمنت اليوم الجمعة 4-10-2024 في محافظة الدقهلية    ارتفاع أسعار البيض اليوم الجمعة في الأسواق (موقع رسمي)    لازم يتجوز.. القندوسي يوجه رسائل إلى كهربا لاعب الأهلي (فيديو)    حقيقة نفاد تذاكر حفلات الدورة 32 من مهرجان الموسيقى العربية.. رئيس الأوبرا ترد؟    دعاء أول فجر في ربيع الثاني.. «اللهم بارك لنا في أعمارنا»    دعاء يوم الجمعة.. تضرعوا إلى الله بالدعاء والصلاة على النبي    حقيقة اغتيال هاشم صفي الدين    نائب مدير الأكاديمية العسكرية: نجحنا في إعداد مقاتل بحري على أعلى مستوى    خروج عربة ترام عن القضبان في الإسكندرية.. وشهود عيان يكشفون مفاجأة (فيديو وصور)    لاتسيو يسحق نيس ويتصدر الدوري الأوروبي    تعرف على نصوص صلاة القديس فرنسيس الأسيزي في ذكراه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



« أنا والسينما»..حلقات يكتبها الأديب إبراهيم عبد المجيد
(الحلقة الأولى)

حكاياتى مع السينما وفى السينما كثيرا ما تحدثت عنها بين الأصدقاء .وكثيرا ما ظهرت فى رواياتى . فى السنوات الأخيرة بدأ بعض الكتاب يطالبوننى أن أكتب فى السينما وكيف كانت عبر حياتى .
أسماء كثيرة أذكر منها الكاتب والناقد والمؤرخ السينمائى محمود قاسم والشاعر الصحفى سيد محمود الذى كرر مطلبه كثيرا وتشجعت به , وعدد كبير من الشباب المحبين لكتاباتى . ترددت كثيرا لأنى مثل نجيب محفوظ لن أكتب مذكراتى التى تسللت إلى رواياتى . لكنى أخيرا قررت أن أفعلها فى هذا الجانب . السينما ؟ لم َ لا ؟
............................................................................... لم تكن السينما مجرد فيلم شاهدته وعدت إلى البيت , لكنها كانت «مشوارا» رائعا مع أصدقاء أفتقدتهم فى الحياة فيما بعد . مشوار رائع فى طرقات وشوارع فقدت بريقها وجمالها ومدن تقريبا اختفت رغم أنها لا تزال تحمل أسماءها . السينما كما عرفتها تاريخ وطن وتجليات لروح ذلك الوطن .
لم أكن أعرف وأنا صغير أن دور السينما فى الإسكندرية وراءها تاريخ طويل يمكن إجماله كله فى أن الإسكندرية كانت المدينة الأولى التى تم بها أول عرض سينمائى فى مصر وهو فيلم الأخَوان لوميير الفرنسيين الذى يعتبر أول فيلم فى تاريخ السينما . اختار الأخوان لوميير أن يكون العرض الأول للفيلم خارج فرنسا فى المدينة الكوزموبوليتانية « العالمية « الإسكندرية . كان ذلك فى 5 نوفمبر عام 1896 بعد أقل من عام على عرض الفيلم فى باريس فى فرنسا .
كل ما يتعلق ببدايات السينما كان فى الإسكندرية , وستجده بشكل أوسع فى مقدمة الكتاب حين صدوره .
تاريخ طويل للإسكندرية مع السينما لن يصرفنى عن موضوع كتابى عن فتنتى بالسينما .
وأكتفى هنا بتقديم صغير لأبدأ فى حكايات البراءة والجرى وراء الأفلام والنجوم منذ تركت الروضة « الحضانة « الآن وأنا فى الخامسة من عمرى ومشيت من بابها المفتوح فالدنيا أمان ووجدت أمامى سينما فدخلتها فقط لأنى رأيت زحاما من الناس يدخلونها بعد أن نظرت إلى أفيشاتها التى كانت مدهشة لطفل مثلى .
الإندفاع والهوى ..
إذا حاولت هنا أن أحصى سينمات الإسكندرية كما عرفتها فيسكون للسينمات التى دخلتها الوجود الأكبر . لايمكن أن أنساها . ربما أنسى سينما أو أكثر مما لم أدخلها . ولم يكن عدم دخولى لها إلا لبعدها عن بيتنا مثل سينما «قيس» وسينما «ليلي» فى حى باكوس, أو سينمات «التتويج» «ورأس التين» « و«الأنفوشى» فى الأنفوشي, أو سينمات «لاجيتيه» و»أوديون» و «سبورتنج» فى كامب شيزار وسبورتنج . لم يكن هناك مبرر أن أذهب إليها وأنا ابن حى كرموز . لقد كان حى باكوس مثلا بعيدا عنا جدا رغم أن الإسكندرية كلها ليست كبيرة , كما أننا تعودنا الذهاب إلى السينما مشيا فى جماعة لا نكف عن الضحك فى الطريق , أو فى الترام دون أن نقوم بتركه إلى ترام آخر ونحن صغار . وكذلك حين أكون وحدى فلم يكن هناك معنى أن أذهب إلى محطة الرمل , لأركب الترام إلى باكوس أو كامب شيزار أو كليوباترا بينما هناك سينمات فى محطة الرمل . إذن أنا هنا لن أقدم إحصاء لدور السينما رغم سهولته , لكنى سأقدم السينمات كما رأيتها أو كما أحسست بها . لكن من أين أبدأ ؟ من حى كرموز . لابد . هو الحى الذى ولدت فيه . والذى دخلت فيه أول دار سينما فى حياتى وكنت تقريبا فى الخامسة من عمرى .
قصة دخولى السينما ذلك الوقت تناثرت بإيجاز شديد فى بعض حواراتى ومقالاتى . لكنى هنا سأوسع فيها قليلا .
تقع السينما الوحيدة فى حى كرموز فى شارع النيل وتحمل إسم سينما «مصر» . بينها وبين شارع كرموز الرئيسى مسافة قليلة فى شارع «باب الملوك» . شارع باب الملوك يمتد من حى كوم الشقافة حتى يصل إلى شارع النيل . وفى المنتصف يتقاطع مع شارع كرموز حيث تسير ترام كرموز رقم «5» . لم يكن الأوتوبيس الواصل بين محطة الرمل وكوم الشقافة يمر من الشارع بعد شارع باب الملوك , بل يدخل من شارع باب الملوك إلى حى كوم الشقافة حيث محطته ألاخيرة . أى أن المسافة من شارع باب الملوك إلى شارع ترعة المحمودية حيث كوبرى كرموز هى مسافة لا يمشى فيها ذلك الوقت , عام 1951 من فضلك , غير ترام كرموز التى تدور من أمام الكوبرى إلى اليمين , وتستمر بموازاة ترعة المحمودية حتى تنتهى فى المنتصف بين حى كرموز وحى كفر عشرى حيث جراج كبير للترام وأعمال الصيانة . تنتهى الترام قبل الجراج بمسافة قليلة . وعلى الناحية الأخرى من ترعة المحمودية مساكن العاملين فى السكة الحديد وقبو طويل تحت الأرض يصل إلى بحيرة مريوط حين كانت هناك بحيرة فى الدنيا . أى قبل أن يعتدى عليها حكام المدينة ويتعاونوا مع أهل الشر من محدثى النعم الذين عادوا من بلاد النفط بالمال والفكر السلفى الرجعى , ورجال المال الذى لا يعرف أحد مصدره الذين ظهروا منذ سياسة الانفتاح الاقتصادى التى دشنها الرئيس السادات , فتسمح لهم المحافظة ورجال الأحياء بردم البحيرة لإنشاء مشاريعهم , أو تردم البحيرة لإنشاء مشاريع الدولة من مصانع كيماوية وغيرها مما لوث البيئة إلى أقصى مدى .
شارع كرموز هذا الذى تمر فيه الترام كانت تمر فيه السيارات الملاكى التى لايمتلكها إلا عدد لا يذكر من البشر, لذلك كانت مثلا تقام مباريات كرة القدم – الكرة الشراب – فى «ميدان الساعة» ليلا فى الصيف فى مسابقات بين الأحياء . كرموز وغيط العنب وكوم الشقافة وراغب باشا . السيارات التى كانت تمر كانت نادرة جدا . ربما سيارة أو اثنتين فى اليوم , ومن ثم كنا نحن الأطفال نصفق لها عند مرورها !
كانت أمى وليس أبى هى من ألحقتنى بمدرسة خاصة للأطفال . كانت تسمى «روضة «. أى حضانة بلغة هذا العصر . كانت كلمة «الروضة» أفضل لأننا كنا نذهب لنلعب والتعليم كان يتم فى الحديقة بين اللعب . كان عمرى خمس سنوات تقريبا . كانت هذه الروضة تسمى مدرسة «الشيخ عبد الله» . لا أذكر إلا أن صاحبها كان شيخا يرتدى الزى المعروف للشيوخ . أى «الكاكولا» فوق الجلباب وفوق الجميع «العمّة» على رأسه . ماحدث وماذكرته بإيجاز فى كتابى ما وراء الكتابة هو أنى رأيت باب الروضة مفتوحا دائما . كنا فى الحديقة الصغيرة لا خوف علينا من الخروج من الباب المفتوح لأنه لاخوف من الترام البطئ أو أى سيارة نادرة تمر . فالشارع واسع وشبه خال من الحركة كما قلت . ثم هل يترك الأطفال حديقة يلعبون فيها إلى الشارع ؟
وجدت نفس أمشى خارجا من الروضة وأبتعد قليلا وأدخل شارع باب الملوك . كيف مشيت هكذا ولماذا ؟ لا أذكرغير أنى مشيت أنظر إلى المحلات حولى حتى انتهى شارع باب الملوك . المسافة الباقية منه بعد حى كوم الشقافة صغيرة جدا . ربما كانت مائتى متر . رأيت على يسارى زحاما من البشر والوقت نهارا فى الصباح . نظرت إلى أعلى فرأيت أفيشات لفيلمين أحدهما عربى بطولة شادية وكمال الشناوى . والفيلم الآخر هندى .عرفت اسم الممثلة التى فيه من الأحاديث حولى كما عرفت اسم شادية وكمال الشناوى . كانت الممثلة الهندية تسمى «نرجس» . رأيت لها فيلما أو اثنين فيما بعد , ومع التقدم فى الزمن عرفت أنها من أهم الممثلات فى الهند هى وراج كومار الذى كان معها فى الفيلم أيضا . أذكر من الفيلم العربى جريمة قتل ومن الفيلم الهندى عناء نرجس مع فيضان النهر .
لم أكن أعرف أن هناك تذاكر يُدفع لها ثمن ما. لم انتبه إلى الناس وهى تقطع التذاكر . كان أمام السينما رجل يقوم بلعبة الثلاث ورقات فوقفت أتفرج عليه مع الواقفين. ثم رأيت الناس تدخل السينما فدخلت غير مدرك أن هناك تذكرة .
لفتت انتباهى رائحة الماء والصابون القادمة من أرضية السينما التى كان فوقها مقاعد خشبية ممتدة – دكك كما يقال – ووجدت الناس تجلس فى صمت فجلست بين الجالسين . أمامى الشاشة تخفيها الستارة التى ستنفرج بعد قليل . هل هذه هى السينما التى سمعت عنها فى البيت بين أمى وجيرانها وبين الأولاد الأكبر منى. كانت أمى تحكى دائما كيف جاءت جدتى من الريف , وكانت تأتى مرة تقريبا فى العام , كما كانت أمى تذهب بنا إليها فى الإجازة الصيفية التى كانت تسمى بالمسامحة الكبيرة , على عكس إجازة نصف العام التى كانت تسمى بالمسامحة الصغيرة . لم أعرف سرا لهذه التسمية للإجازة من الدراسة إلا اعتبار الدراسة عقابا رغم أنها كانت من أجمل ساعات اليوم . ماعلينا. أمى كانت دائما تحكى وتضحك كيف ذهبت بجدتى إلى سينما ركس مع ابنة عمى التى كانت تحب السينما وكانت شابة, وكيف أثناء الفيلم كان هناك مشهد يتحرك فيه القطار قادما بسرعة ثم يملأ الشاشة – فى لقطة كلوز – لم تقل أمى لقطة كلوز طبعا – ولكن قالت بدا القطار وكانه سيقفز علينا , فنهضت جدتى صارخة تحاول الجرى خارجة من بين المقاعد لولا أن أمسكت بها هى وابنة عمى التى لم تكف عن الضحك كما ضحك غيرها من الجالسين . وهكذا كان إسم سينما ركس هو أول إسم لدار سينما أسمعه فى طفولتى.
لقد أظلمت سينما «مصر» أو سينما «النيل» كما عرفت أسم شهرتها الذى جاء من إسم الشارع . لم يخَف أحد فلم أخَف . بدأ الفيلم الهندى الذى كان مثيرا جدا لى أكثر رغم أنى لا استطيع قراءة الترجمة العربية التى أمامى . فى الاستراحة بين الفيلمين أضاءت السينما وكان يدور بين المقاعد رجل يبيع «المعمولة» وهى قرص صغير محشو بالملبن او العجوة . إشتريت قطعة بالتعريفة – نصف قرش الصاغ - الذى أملكه وكان مصروفى اليومى. أكلتها وأظلمت السينما وبدأ الفيلم العربى. رأيت شادية أمامى لأول مرة وكنت أسمع أغانيها فى الراديو. ورأيت كمال الشناوى. خرجنا من السينما ورأيت النهار أمامى من جديد. صرت أفتح عينى على الضوء الغامر للدنيا. تذكرت أن أمى تأتى لتأخذنى من المدرسة فى الساعة الواحدة. أسرعت دون أن أسأل أحدا عن الوقت . رأيت باب الروضة مفتوحا والأطفال كما هم فدخلت.
لم ينتبه أحد لغيابى أو عودتى . جاءت أمى لتعود بى إلى البيت فلم أخبرها بشئ.
لا أنسى نظرتها لى وهى تسألنى مالك يا ابراهيم ما بتتكلمش ليه؟ أجيبها «ولا حاجة». والحقيقة كنت مترددا أن أحكى لها فلم أحكِ.
فعلت ذلك فى اليوم التالى فرأيت الفيلمين نفسهما. عرفت أن الافلام تتغير كل أسبوع. لم تطل الأيام وجاءت أمى قبل الساعة الواحدة يوما لتصحبنى إلى البيت. جاءها خبر وفاة أحد أقاربها فى القرية ولابد أن تسافر. لم تجدنى فى الروضة. ارتبكت وارتعبت كما قالت فيما بعد, وارتبك الشيخ عبد الله صاحب الروضة, وقال لها ليس أمامهما إلا الذهاب إلى قسم كرموز للإبلاغ عن اختفائى . قسم كرموز هو قسم البوليس الخاص بالمنطقة, وهو أمام السينما . بينما أنا خارج من السينما كانا هما خارجين من القسم بعد أن حررا محضرا باختفائى من المدرسة. كانت أمى فى حالة يرثى لها من الرعب عليّ. أخذتنى فى حضنها وهى تهتف «إبنى» لقد عرفا أنى أفعل ذلك كل يوم تقريبا. انتهى الأمر بالضحك ولم أذهب إلى الروضة أسبوعا حتى عادت أمى من القرية. حذرتنى من معاودة الهرب من المدرسة, الروضة, لدخول السينما. كانت هذه أول مرة أعرف معنى الهروب من المدرسة وأعرف معنى كلمة «تزويغ». وطبعا عرفت هى وأبى الذى كان لا يعاقبنى أبدا على شىء خطأ ويكتفى باللوم والنصح. إندهشوا من دخولى السينما دون تذكرة . فسروا الأمر كما كان فعلا. صغر حجمى كان لا يلفت انتباه الرجل الذى يقف على الباب ليأخذ التذاكر من الداخلين . قالت لى أمى أن مصروفى – قرش تعريفة – لايكفى ثمنا للتذكرة – قرش صاغ – ويمكن لو اكتشفنى الرجل يضربنى. أخافتنى طبعا . كان معنا ولد أكبر وأهله جيران أسمه سيد وكنا نسميه سيد الفلاح لأصوله الريفية ولضخامته قياسا لنا . كان سيد يذهب إلى الروضة وحده . قالت له أمى أن يتابعنى بين الحصص ويتأكد من وجودى دائما فى الروضة. وفى أول يوم سألنى سيد عن مصروفى فقلت قرش فقال أن مصروفه أيضا قرش والإثنان معا يعنى صاغ وهو ثمن تذكرة السينما – كلمة قرش فى الإسكندرية تعنى خمسة مليمات, أى تعريفة بالعامية , وليست القرش الحقيقى الذى هو عشرة مليمات. هذا يسميه الإسكندرانيون صاغ – أو كما ينطقونه «ساغ». وهكذا صار يأخذ مصروفى ويضمه إلى مصروفه ويشترى تذكرة دخول له هو الأكبر منى حجما وأدخل أنا بين الداخلين لا ينتبه إليّ أحد. كان سعر التذكرة تسعة مليمات يأخذ بالمليم الباقى قطعة بونبونى يأكلها يوما ويعطيها لى يوما.
هكذا صار الحال حتى انتهت السنة. نقلتنى أمى بعدها إلى مدرسة الشيخ عبد الله أيضا, لكنها هنا مدرسة ابتدائية وتحمل اسم الشيخ عبد الله النديم فى حى كفر عشرى فى شارع التجارة كما عرفت فيما بعد, فى بيت عبد الله النديم نفسه, الأديب الكبير للثورة العرابية الذى مات فى منفاه فى تركيا ودفن هناك ولم تفكر الدولة ابدا فى إعادة رفاته إلى بلده الإسكندرية ووطنه مصر رغم السنين الطويلة التى عشناها نسمع عن الوطنية ومقاومة الاستعمار. بل سمعت أن بيته هذا هدم فى الثمانينيات من القرن الماضى وسمعت أنه موجود الآن لكن مهمل وتحول إلى مقر للمخدرات والحشرات والضائعين إذ استولى عليه البلطجية. للأسف لم أتحر الأمر. لم أعد أترك المدرسة إلى السينما لأن أبى صار يعطينى كل يوم جمعة قرشين أدخل منهما السينما دون حاجة لترك المدرسة . صار طلبى أن أدخل السينما مُرَّحبا به فى البيت. لن أعود إلى التزويغ من المدرسة إلا فى المرحلة الإعدادية وما بعدها, رغم أن أبى زاد فيما يعطيه لى مع الأيام لأدخل سينما درجة ثانية أو أولى أحيانا ولا أكتفى بالدرجة الثالثة!
صار لى مشوار أسبوعى إلى السينما . يعطينى أبى قرشين فأدخل بقرش صاغ واشترى ما أريد بالقرش الثانى وصارت سينما مصر – النيل – هى مشوارى . يذهب معى أحيانا أصدقاء من الحى ليس من بينهم سيد الفلاح الذى ترك المدرسة مبكرا وابتعد عنا إذ صار يعمل فى أحد المحلات بكرموز . كانت سينما النيل كبيرة رأيت فيها أفلاما أجنبية كثيرة . صرت أتقدم فى القراءة فأقرأ ترجمة الحوار . بل ربما ساعدت السينما على تقدمى فى القراءة . عرفت أسماء الممثلين مثل جلين فورد وجارى كوبر وبيرت لانكستر وريتشارد ويدمارك وكيرك دوجلاس وايدى مورفى وجريجورى بيك وجون واين وتونى كيرتس وغيرهم من الرجال . كذلك آفا جاردنر ومورين أوهارا ومارى بيكفورد وديبى رينولدز وجريس كيلى وديبورا كير وجين سيمونز وساندرا داى وجين مانسفيلد ومارلين مونرو وبريجيت باردو وفرجينيا مايو وغيرهن من النساء. عرفت أسماء الممثلين المصريين . كمال الشناوى وشكرى سرحان وعمر الشريف وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وأحمد رمزى وفريد شوقى وعبد السلام النابلسى ومحمود المليجى ويوسف وهبى وزكى رستم واستيفان روستى وعبدالوارث عسر وانور وجدى وشادية وفاتن حمامة وصباح وماجدة وهند رستم ولبنى عبدالعزيز وإيمان وآمال فريد وهدى سلطان وزينات صدقى ووداد حمدى. إلخ الكوكبة العظيمة من ممثلى الخمسينيات وما قبلها. كان منظر لاعب الثلاث ورقات يثيرنى دائما وكنت أقف أتفرج عليه والأولاد الأكبر منى يلعبون معه ويخسرون رهانهم وبعضهم يكسب. كان يقلب الأوراق الثلاث بين يديه ويُطلع المشاهدين على الورقة حاملة الصورة ثم يضعها مقلوبة على الطاولة أمامه فيشير الشخص إلى الصورة فلا تكون هى حين يقلبها أمامنا. كيف يخدعنا بهذه المهارة؟ ولكن كان هناك من يكسب . قررت مرة بعد سنوات وأنا فى العاشرة تقريبا من العمر أن أفعلها وألعب وأنا على ثقة من الربح. لكنى خسرت القرشين فى أربع مرات متوالية وعدت فى ضيق دون أن أدخل السينما. حكيت الحكاية لأبى فضحك وقال لا تفعل هذا مرة ثانية . لا تقامر. وأخبرنى أن من يكسبون هم من أصحاب الرجل وباتفاق معه ويكسبون ليشجعوا الآخرين على اللعب وآخر النهار يعطيهم الرجل شيئا مما كسب !
الأسبوع القادم (الحلقة الثانية)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.