فطنت البشرية منذ بواكير تاريخها لقيمة الفرد في حياة المجموع, تلك القيمة التي صاغتها كل حضارة وفقا لمفرداتها التاريخية ومقدراتها الذهنية وأسسها العقدية. بحيث إختلط مفهوم القيادة في المبتدأ بالقداسة التي بلغت أحيانا حد التأليه تمييزا لاعمال مبدأ الأول بين الأكفاء. وكلما نضجت الجماعة كان مفهوم البطل القومي عندها يخرج من عباءة القيادة لآفاق التعبير عن الهم القومي إحتماء بتلك الشخصية المصوغة والتي أسبغ عليها من خوارق القدرات ما يجعل منها أسطورة أو شخصية ملحمية تجسد مخاوف من حولها ومعاناتهم ومن ثم قدرتها علي مواجهة المعضلات أو إسباغ الحماية والخلاص. ولقد عايش المصري عبر تاريخه تلك المراحل وما إرتبط بها من مفاهيم إنعكست عليها بالضرورة التحديات التاريخية والتطورات المجتمعية ومن ثم التصورات القومية لطبيعة البطولة. فالنظرة لإيمحوتب مهندس الهرم المدرج كبطل قومي تم إستدعاؤه من دهاليز التاريخ بعد عدة قرون ليواجه المصري القديم بتقديسه معنويا ما كان يموج به المجتمع من أجانب حفظا للهوية وتمسكا بمفردات التفوق الحضاري, تختلف عن نظرة المصري الحديث لسعد زغلول كبطل قومي عايش أحلام المصريين في الإستقلال ليصبح وفق تفاعلات المشهد مع اللحظة التاريخية زعيما سياسيا خرج من عباءة البطولة القومية. كما أن هذا المفهوم عن صياغة البطل القومي يختلف عن مثيله البطل الشعبي الذي تدغدغ حكايا السامر فيه مشاعر المتحلقين حول الراوي لخوارق بطلهم مطلقين العنان لخيالاتهم, كل حسب تركيبته الوجدانية حيال مفهوم البطولة بحيث تتعدد الصور والبطل واحد. وليست حكايا أبو زيد الهلالي والزناتي خليفة بل وأدهم الشرقاوي عنا ببعيدة. والواقع أن العصر الحديث قد شهد مؤسسات قادرة علي صناعة البطل القومي بعدما كانت صياغته إحدي الهبات الذاتية للشعوب في إختيار أبطالها. هذه الصناعة أصبحت تتم علي نطاق واسع ووفق آليات شديدة التركيز والتعقيد تعتمد أساسا علي مؤثرات الإعلام المتباينة وتستثمر بعناية حوادث آنية تجعل بمكنتها مخاطبة المجموع بمفردات اللحظة وليس بمعطيات المرحلة وتعتمد في الغالب علي شخصنة الكاريز ما بالفكرة بدلا من الشخصية الكاريزمية التي هي ملك المجموع في صياغة البطل القومي. ولعل أخطر أساليب صناعة البطل القومي هي محاولة الخلط بينها وبين مفردات صياغته للإيهام بقدرته علي الإحساس بالمجموع ومعاناته دون طرح لمتغيرات إيجابية من عندياته, في زمن تجاوز الخوارق والأساطير في فهم الواقع إلي حلول علمية تستند علي المؤسسات المجتمعية رسمية كانت أم مدنية. ومن ثم لم يعد مفهوم البطل القومي حلما بعيد المنال, شريطة أن تتم صياغته شعبيا ويترسخ وجدانيا ليصبح معلما تاريخيا في محطات الوطن الزمنية. أما أن تتم صناعته وفقا لأهداف مرحلية ثم إستهلاكه سياسيا فهو هدف لحظي قد يخفي حتي علي صاحبه, ولعل قبضة ليخ فاونسا في وجه رئيسه أو بالأحري في وجه النظام الشيوعي بميناء جدانسك ببولندا أو كتابات فاتسلاف هافيل الحالمة بالحرية المفقودة في تشيكو سلوفاكيا لم تشفع لكليهما كقادة سياسيين في الإستمرار. إذ فطنت الشعوب أن البون جد شاسع بين التفوق المهني أو الحماس الشخصي وبين الرسوخ القومي, فالأول قد يصنع مثلا أعلي للأجيال المتعاقبة من نظرائه أما الثاني فيلزمه من التضحيات الحقيقية والرؤي الجوانية ما يؤهله للبطولة القومية التي ليست بالضرورة أن تسعي إليه في حينه ولكنها تظل رهن الإستدعاء من وجدان الشعوب بحكم إيمانهم أن تلك التضحيات والرؤي إنما نبعت من معايشة بطلهم فعليا لهم ثم إحساسه ذاتيا بهمومهم ومن ثم طرح الحلول مستهدفا مصلحة المجموع. ولعل مصر في هذه المرحلة من وعيها القومي ليست في معرض المراهقة السياسية التي تجعلها تقع في حبائل الخلط بين الصناعة دون الصياغة للبطل القومي, الذي يزخر تاريخها بنماذجه الثرية التي صاغها أبناؤها حبا وإقتناعا, ومن ثم فهي قادرة علي الإستدعاء الواعي لرموزها من ثنايا الذاكرة وحنايا الوجدان إذا ما دعا الداعي لذلك. بنفس القدر الذي يجعلنا نؤكد أيضا أنها شعبيا ليست بحاجة إلي الشاطر حسن من جديد حتي لا نجد أنفسنا في غمرة حماسنا مضطرين للبحث له عن ست الحسن والجمال. المزيد من مقالات د. حسن السعدي