"من فضائل رمضان أنه يتيح لعدد كبير من الصائمين أن يتذوقوا بعد السحور متعة فترة تفوتهم هم وأغلب الناس بقية العام لأنهم من حزب نوم الضحى، فيهم من يسهر اضطراراً لأنه من الكادحين، وفيهم من يسهر دلعاً لانه من عشاق الليل أعداء الشمس. إنها شقشقة الفجر، يا له من جمال، أعجب كيف يغفل كثير من الناس عنها، ليس إلا عندها يمتلئ القلب بأقصى ما يقدر عليه من الإحساس بعظمة الخالق، بروعة الكون، بالتشوف للطهر، بالانبهار بالجمال". هذا التنبيه لهذه المتعة العميقة المصاحبة لذاك الاحساس العظيم صاحبه كاتبنا الحبيب يحيى حقي. وقد ذكره في مقالة كتبها في ديسمبر 1967 بجريدة "التعاون". وتجدها في كتابه "كناسة الدكان" ويذكر يحيي حقي أيضا "ومن العجيب أن القرآن الكريم منتبه لشقشقة الفجر، متيم بجمالها، أنه أقسم بالفجر «والفجر. وليال عشر»، ربط بينه وبين صدق النية وصفاء الروح: «إن قرآن الفجر كان مشهودا»، رسمه على لوحة مبهجة الألوان بخيط أبيض وخيط أسود، ما أعجب رعشة هذه اللحظة من الزمان." و"شقشقة الفجر" جاء يحيي حقي بسيرتها وهو يحكي عن عالم طفولته ومولد الفجر لديه بالذات.. تلك اللحظة الساحرة الجميلة من الزمان مع بداية اليوم وشروق الشمس .. مع دنياه وهو طفل عندما كانت وحسب توصيفه "دنيا المسموعات لا المرئيات" وبالتالي يتذكر منها صوت دقة نبوت الخفير بالليل وأيضا صوت البومة. وفي الفجر كما يكتب ".. يصل الى سمعي صوت حلو مرتين، مرة لأنه بعيد، ومرة لأنه يملأ قلبي بالفرح والخشوع معا، انه صوت المؤذن: الله أكبر .. الله أكبر. حينئذ أحس بأنني في حوزة رب قدير ورحيم معا، صوت المؤذن هو الذي يبدد عندي الظلام والمخاوف. وها هو ذا بشير آخر بالصبح، انه صوت الديك. يؤذن لي هو أيضا من على سطح قريب، كأنه يقول: اصح يا نايم" و"لا تدع يفوتك شروق الشمس" سمعناها كثيرا من الوالدة والجدة ونحن نمر عبر سنوات الطفولة والصبا. بل رددناها أيضا كثيرا فيما بعد عندما اكتشفنا نحن بأنفسنا معنى "شقشقة الفجر" وقيمة"ميلاد نور النهار" ومتعة رغبتنا في احتضان دنيانا. النحات الكبير آدم حنين قال منذ سنوات في حديث مع أماني عبد الحميد بمجلة المصور «لأنني كنت دائما مقتنعًا أن الأرزاق يقسمها الله مع بدايات النهار، كنت أستيقظ مبكرا» وفسر قوله مضيفا «لأحاول أن أسابق الشمس قبل أن تشرق وتملأ الدنيا بنورها الساطع فأكون قد أنجزت عملي لتشرق عليه». وما أعظمه آدم حين يذكرنا أيضا «الفنان يجب أن ينحت نفسه قبل أن ينحت الحجر، يعلم نفسه الصبر والجلد والتضحية». وعلى الانسان منا ألا يتردد للحظة في أن يرفع ازميله وينحت نفسه وحياته. وأن يسابق الشمس و"اصح يا نايم". وطالما نتحدث عن الفجر وشقشقته يأتي في البال الكتاب المرجع "فجر الضمير" لعالم المصريات الأمريكي الشهير جيمس هنري برستد. برستد ( 1935 - 1865) أحد أعظم علماء المصريات الرواد في العالم. عاش في مصر ما بين1899 و1908. وقد أسس المعهد الشرقي بجامعة شيكاجو عام 1919. وحياته الغنية بالاكتشافات والأبحاث والمؤلفات جديرة بالاهتمام وبزيارات متكررة منا .. ومن الأجيال الجديدة مثلما فعل أكثر من مرة الكاتب جمال الغيطاني ذاكرا "جيمس هنري برستد أول عالم مصريات يكشف المضمون الروحي الكوني العميق للحضارة المصرية القديمة. اكتشف من خلال دراسته للنصوص أن المصريين أول من أسس فكرة الضمير، وأن عقيدتهم كانت تدور حول اله واحد له تجليات عديدة". وكتاب "فجر الضمير" صدر عام 1933 وقد ترجمة الى العربية د. سليم حسن. وبين صفحاته نقرأ نصوصا من حكم المفكر المصري "أمينوبي" الذي يقول: "أمل أذنيك لتسمع أقوالي وأعكف قلبك على فهمها لأنه شىء مفيد اذا وضعتها في قلبك ولكن الويل لمن يتعداها" وقد قال "أمينوبي" المصري أيضا: "الفقر في يد الله خير من الغنى في المخازن وأرغفة تحصل عليها بقلب فرح خير من ثروة تحصل عليها في تعاسة" ودورة أيامنا بين عتمة الليل و "شقشقة الفجر" يستعين بها المفكر د. حسين فوزي في كتابه المتميز "سندباد مصري"وهو يقوم بجولات في رحاب التاريخ. اذ أنه قسم فصول الكتاب الى ثلاثة أقسام "الظلام" و"الخيط الأبيض والخيط الأسود" و"الضياء". والسندباد يقول عن كتابه " كتبته في بحبوحة الأدب والفن: حرية في الفكر، وتحرر في الأسلوب، وتصرف في نقل النصوص المصرية القديمة". وسواء كانت الجولات التي نقوم بها في رحاب التاريخ أو بين تضاريس الجغرافيا فان ما قد نكتشفه بداخلنا يعد هو الأهم والأثمن والأغلى لنا. هذا ما نصحه لنا الكبار ومنهم بلا شك يحيي حقي بما كتبه وما نقرأه في "عشق الكلمة" و"أنشودة البساطة" و"خليها على الله" و"من فيض الكريم". وفي كتاب ليحيي حقي يحمل هذا العنوان الأخير نقرأ عن رجل صعيدى "عم محفوظ" تقدم به العمر عمل حارسا لعمارة شاهقة يجري بناؤها متحملا مشاق العمل ومتاعبه لأن صاحب الملك أكد له أنه سيكون بواب العمارة. ولكن حين تم التشطيب نكث بوعده ورفت الرجل وجاء بشاب وسيم ليكون بواب العمارة. ويقول يحيي حقي: "وحين وصلت وجدت عم محفوظ واقفا وسط الشارع، كالصنم .. كنت سمعت بخبره فأقبلت عليه بلهفة وفي قلبي جزع شديد عليه. فلو جرى لي ما جرى له لانهدمت، قلت له: ماذا ستفعل ، أين ستذهب؟ أجابني بصوت لم تتغير نبرته التي أعهدها: وى، لي رب. ثم رفع سبابته الى السماء. وأضاف لا هو مبتسم ولا هو متهجم: كيف تقول هذا لي، أتحسب أن الله خلقني لينساني .. وأدركت كم أنا ضئيل وقنوط بالقياس اليه. ووقفت أراقبه وهو يبتعد عني بخطى ثابتة. كأنه ذاهب للوفاء بموعد مضروب منذ الأزل مع صاحب عمارة ناطحة للسحاب .. تتسع لأهل الأرض جميعا. لا تصد طالبا لسكن .. سيكون هو بوابها." ................... عم محفوظ وأمينوبي ويحيي حقي و"شقشقة الفجر" هم أساتذتنا في دروب الحياة. ولنا رب اسمه الكريم!