المدينة الجامعية بجامعة حلوان تعلن استعدادها لاستقبال الطلاب    ارتفاع مؤشرات البورصة المصرية بمستهل تعاملات اليوم    خبير: التنمية السياحية في جنوب سيناء تحتاج جهد الدولة مع القطاع الخاص    «حزب الله» يعلن قصف مقر الموساد في تل أبيب    أسوشيتيد برس: النصر الذي تطمح إليه إسرائيل على حزب الله ربما يكون بعيد المنال    فتح الله يوجه نصيحة لدفاع الزمالك قبل السوبر الأفريقي    وفاه شخص أثر انقلاب سيارة ملاكى فى ترعة بمركز صدفا فى أسيوط    عاجل - أجواء خريفية حارة تضرب البلاد.. الأرصاد تكشف تفاصيل الطقس حتى نهاية سبتمبر    القبض على سائق متهم بالتحرش بفتاة في منطقة الدقي    تحذيرات من تلوث مياه الشرب: هل هي حقيقة أم شائعات؟    وزارة الداخلية تقرر رد الجنسية المصرية ل 36 مواطن    استشاري يحذر من الخلافات الأسرية: تصيب الأطفال بالانطوائية والعنف    إيساف يستقبل العزاء في شقيقه اليوم    نجم الزمالك السابق: قلقان من أفشة وهاني لما بيسيب مركزه بيغرق    تداول 12 ألف طن بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    مدبولي يستمع لشرح موضوع في اللغة العربية عن الوطن بمدرسة متولي الشعراوي بالسلام    السوبر الأفريقي.. جوميز يحسم حيرة مركز الظهير الأيسر في الزمالك    صحة المنوفية: إدارة المتوطنة تقدم خدماتها ل 20 ألف مواطن خلال أسبوع    استشهاد 6 فلسطينيين وإصابة آخرين في غارات إسرائيلية على قطاع غزة    الكيلو وصل ل50 جنيهًا.. نقيب الفلاحين يكشف موعد انخفاض أسعار الطماطم    انخفاض أسعار البيض اليوم الأربعاء في الأسواق (موقع رسمي)    وزير الدفاع والإنتاج الحربي يشهد حفل تخرج الدفعة 166 من كلية الضباط الاحتياط    تفاصيل الحالة المرورية اليوم: زحام في المنيل وسيولة أعلى كوبري أكتوبر    تشكيل ليفربول المتوقع.. 7 تغييرات.. وموقف صلاح أمام وست هام    "ظهور محتمل لعبد المنعم وصلاح".. جدول مباريات اليوم الأربعاء والقنوات الناقلة    صالون «إسراء» أول محجبة مذيعة على قناة قبطية أمريكية!    إيمان العاصىي عن مسلسل برغم القانون : آمنت بالمشروع من أول حلقة وقلت أنا همضى إمتى    حكم الصلاة بالتاتو والوشم    مستقبلك مصري، جامعة الأقصر تدشن ندوة تثقيفية لتفعيل مبادرة بداية (صور)    وزير الصحة يبحث سبل تعزيز في ملف تطوير الصناعات الدوائية    قطر تنضم لبرنامج الإعفاء من تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة الأمريكية    وزير الخارجية الصيني: سنواصل الدفع نحو وقف إطلاق النار في غزة    كاتب صحفي: مصر حريصة على تدريب كفاءات جديدة عن الأمن السيبراني    مصر سابقة بالتجهيزات.. قضايا الأمن السيبرانى أصبحت أساسية بمنظومة الأمن القومى للدول    تحذير بريطاني لمواطنيها: مغادرة لبنان فورًا    هل نقص المغنسيوم في الجسم يهدد حياتك؟    «الوطنية للإعلام» تنعى الإعلامي أيمن يوسف    هكذا احتفل محمود البزاوي بعيد ميلاده.. صورة    تصاعد التوترات بين إسرائيل وحزب الله: إنذارات وصواريخ وعمليات قصف    أبطال فيلم عنب يحتفلون بالعرض الخاص قبل عرضه اليوم بالسينمات (صور)    خلال تبادل إطلاق نار.. مصرع متهم هارب من أحكام قصائية في قنا    بأسلوب كسر الباب.. سقوط لصوص المنازل بحلوان    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الأربعاء 25 سبتمبر 2024    هل هناك نسخ بالقرآن الكريم؟ أزهري يحسم الأمر    أنقرة: الصراع الأوكراني يهدد بمواجهة عالمية طويلة الأمد    برنامج تدريبي لأعضاء هيئة التدريس عن التنمية المستدامة بجامعة سوهاج    تحرك عاجل من كاف قبل 72 ساعة من مباراة الأهلي والزمالك بسبب «الشلماني»    بعد ظهورها في أسوان.. تعرف على طرق الوقاية من بكتيريا الإيكولاي    بشرى للموظفين.. موعد إجازة 6 أكتوبر 2024 للقطاع العام والخاص والبنوك (هتأجز 9 أيام)    حمادة طلبة: الزمالك قادر على تحقيق لقب السوبر الأفريقي.. والتدعيمات الجديدة ستضيف الكثير أمام الأهلي    ما حكم قراءة سورة "يس" بنيَّة قضاء الحاجات وتيسير الأمور    فريق عمل السفارة الأمريكية يؤكد الحرص على دفع التعاون مع مصر    حظك اليوم| الأربعاء 25 سبتمبر لمواليد برج الحمل    خلال لقائه مدير عام اليونسكو.. عبد العاطي يدعو لتسريع الخطوات التنفيذية لمبادرة التكيف المائي    تشيلسي يكتسح بارو بخماسية نظيفة ويتأهل لثمن نهائي كأس الرابطة الإنجليزية    هل هناك جائحة جديدة من كورونا؟.. رئيس الرابطة الطبية الأوروبية يوضح    رسائل نور للعالمين.. «الأوقاف» تطلق المطوية الثانية بمبادرة خلق عظيم    خالد الجندي يوجه رسالة للمتشككين: "لا تَقْفُ ما ليس لكم به علم"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
البروفيسور.. مكان جيمس هنري برستد

»‬كثيراً ما كنت أمر أمام هذا المقر الجميل في الأقصر وأسأل نفسي: ما العلاقة بين شيكاغو وهذا البيت، لماذا يسمي ببيت شيكاغو؟..»
شخصيتان تنتميان إلي جامعة شيكاغو سعدت بوجودي في المجال الذي ارتبطا به وعاشا فيه، الأول معروف للمثقفين في مصر، جيمس هنري برستد، أحد أعظم علماء المصريات في العالم عُرف في مصر عندما قررت وزارة المعارف العمومية في الثلاثينيات تدريس كتابه الذي صدر عام 1905 وترجم إلي العربية »‬تاريخ مصر القديم» علي طلاب المدارس الثانوية، وأحتفظ بنسخة أصلية من هذا السفر القيم الذي كان يعتبر وقت صدوره من أدق ما كُتب في تاريخ مصر حتي وقت صدوره، وفي عام 1955 ترجم الدكتور سليم حسن كتابه الذي بصرنا بروح مصر القديمة المفتري عليها نتيجة انتصار الرؤية التوراتية في التاريخ وسيادة رؤيتها السلبية لمصر وهذه مشكلة ثقافية عميقة تشكل شرخاً في الشخصية المصرية وتحتاج إلي جهد كبير لتصحيح المفاهيم، أهم منطلق في هذا التصحيح هو الحقيقة المؤكدة من خلال النصوص والآثار، أن المصريين القدماء لم يكونوا وثنيين، إنما كانوا يؤمنون بإله خالق للوجود، وأن الفرعون لم يكن طاغية علي الإطلاق، إنما كان رأساً للدولة، والفرعون المذكور في القرآن الكريم هو فرعون واحد فقط وليس الفرعون علي إطلاقه، كلمة فرعون تعني (البيت الكبير) أي رمز السلطة، كما نقول الآن »‬البيت الأبيض» ونعني بذلك رئيس الولايات المتحدة، »‬فجر الضمير» كتاب يجب أن يقرر علي المدارس الثانوية حتي يعرف النشء حقيقة الحضارة التي ينتمون إليها. لبرستد كتاب آخر عن الديانة المصرية القديمة وترجمه إلي العربية الدكتور زكي سوس، صدر عن دار الكرنك عام 1961، ويعتبر من الكتب الرائعة في فهم وشرح العقيدة المصرية القديمة والتي خرجت منها العقائد التالية لها التي ظهرت في الشرق كله، قال أندريه مالرو أديب فرنسا العظيم إن مصر هي التي اخترعت الأبدية، مشيراً إلي رفض المصريين لفكرة العدم النهائي، واعتبارهم أن الحياة جسر يعبر، وأن الموت بوابة لطريق لا نهائي يبدأه الإنسان بعد الحساب في المحكمة الأوزيرية، بعدها إما أن يمضي إلي حقول يارو أي الجنة في مفهوم المصريين القدماء أو إلي الجحيم، من الكتب الرائدة في العقيدة المصرية »‬الديانة المصرية القديمة» لأدولف أرمان، صدر عام 1904 في ألمانيا وترجم إلي العربية عام 1955 في مشروع الألف كتاب الذي أسسه طه حسين، لقد ظهرت حقائق عديدة عن مصر وعقائدها وتاريخها ويعتبر العالمان الألمانيان أريك هورننج، ويان اسمان، من أعظم علماء المصريات المتخصصين في الديانة المصرية القديمة، قرأت لهورننج كتبه المترجمة إلي اللغة العربية مثل »‬أفق الأبدية» عن عقيدة العالم الآخر، و»‬الوحدانية والتعدد» في الفكر المصري القديم، وأسهمت في التعريف بكتاب رائع نشر في أخبار الأدب مسلسلاً عندما دفعت به إلي المترجم القدير حسن حسين شكري ليترجمه من الانجليزية وصدر في مشروع الألف كتاب الثاني من الهيئة العامة للكتاب، أما يان اسمان فقد ترجم إلي العربية عدد من مؤلفاته، منها »‬ماعت» رمز الحق والعدل، و»‬مصر القديمة» الذي طبع في دار الجمل، وعن نفس الدار أيضاً صدر »‬التمييز الموسوي» بترجمة ويعتبر من أهم ما قرأت لأنه يفسر مسئولية الديانة الموسوية في اعتبار مصر القديمة وثنية، ورغم أنني حساس جداً فيما يتعلق بذكر ديانات الأشخاص إلا أنه لابد من الإشارة إلي يان اسمان وجيمس برستد، فكل منهما أنصف العقيدة المصرية والحضارة المصرية التي انبثقت عنها رغم معتقدهما الإيماني »‬اليهودية» لقد كانا عالمين جليلين متجددين، لا أعرف مثيلاً لهما في علماء المصريات من المصريين، صحيح هناك أسماء جليلة ونزيهة مثل محرم كمال وسليم حسن وجودت جبرة وأحمد فخري وعلي رضوان وجاب الله علي جاب الله وعبدالمنعم عبدالحليم وعبدالحليم نور الدين، لكن يظل دور علماء المصريات الأجانب أهم وأعمق، رغم ظهور مدرسة مصرية ماتزال في طور التكوين والنشوء، لأن رؤية الحضارة المصرية من داخلها أمر مختلف، لجيمس هنري برستد مؤلفات عديدة لم تترجم بعد من الانجليزية، وأثمن ما عدت به من شيكاغو كتاب نادر طُبع عام 1948 عن الخدم في مصر القديمة وقد عثرت عليه في مكتبة متخصصة في بيع الكتب المستعملة، تقع في نطاق الجامعة وقرب البيت الذي نزلت فيه، وكتاب آخر عن برستد نفسه، ترجمة لحياته كتبها »‬جفري أبت» وصدرت العام الماضي قبل وصولي بشهور، لم أتردد في شراء نسخة عندما لمحته معروضاً في المكتبة الملحقة بمتحف الحضارة الشرقية الذي أسسه وأنشأه برستد، في مبني القاعة الشرقية والذي يوجد فيه مكتبه وغرفة التدريس التي كان يُلقي فيها دروسه، والتي خصصت لي لكي ألقي فيها دروس شيكاغو، من هو برستد إذن وماذا يعني عندي؟
برستد
خلال المرحلة الطويلة مع البشر والكتب، علمتني التجربة أن ثمة صلات عميقة تقوم بيننا وبين الذين لم نلتق بهم ويفصلنا عنهم قرون عديدة، صلة من خلال النصوص، ذلك أن الإنسان يكون في جوهره من خلال ما يكتبه، إذا أتيحت الفرصة لمعرفته نصاً وشخصاً، كما جري لحسن حظي مع نجيب محفوظ، فيا للسعادة أما أولئك الذين عرفناهم من خلال كتبهم وآرائهم فما أقربهم بالنص، بما نضمنه من زفرات ورسائل مبثوثة، جيمس هنري برستد أنصف حضارة الأمة التي أنتمي إليها، أول حضارة في تاريخ الإنسانية، ولكم ظلمت هذه الحضارة حتي إن من حماها ورعاها وأقام العدل أصبح رمزاً للطغيان بسبب سوء الفهم، عندما وُلد برستد عام 1865 لم يكن هناك علم للمصريات في الولايات المتحدة، كانت فرنسا هي مركز علم المصريات بعدها ألمانيا، بدأ برستد تعليمه في كلية الصيدلة، وكان قد وُلد لأبوين هما شارلز وهاريت برستد، أنجبا أربعة أطفال ترتيبه الثالث بينهم، كان نشيطاً ذكياً، يهوي الصيد والرحلات الخلوية ولعبة البيسبول الكرة الأمريكية كان والده تاجراً ناجحاً ويمتلك معرضاً في وسط مدينة شيكاغو، غير أن برستد كان قد قرأ العهد القديم وأثار خياله ما عرفه من أحداث في مصر وبين النهرين، بدأ يتعلم اللغة العبرية، ثم بدأ يهتم بتاريخ مصر وحصل علي درجة علمية من جامعة ييل، إلا أن علم المصريات في الجامعات الأمريكية لم يرو ظمأه إلي معرفة تفاصيل هذه الحضارة، حصل علي منحة دراسية واتجه إلي ألمانيا للدراسة، وتتلمذ لواحد من أكبر علماء المصريات في التاريخ، أدولف أرمان وقد منحه درجة الدكتوراه في المصريات، حتي وجوده في ألمانيا لم يكن قد لمس أرض مصر، ولكن بعد زواجه جاء إليها ليمضي شهر العسل، كان ذلك عام 1894، بالطبع أستطيع تخيل حالته الروحية عندما لمس تراب البلد الذي عرف حضارته القديمة عبر النصوص والمراجع، عاد إلي الولايات المتحدة ليعمل بوظيفة إدارية بمتحف هاسكل Haskl للآثار الشرقية التابع لجامعة شيكاغو، تدرج في العمل الإداري ولم يتوقف عن البحث، أصبح أول أستاذ أكاديمي لعلم المصريات، شغل أول كرسي ينشأ في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن هنا يعتبر أول أستاذ للمصريات ومؤسس العلم بمصر في أمريكا، كان مجال تخصصه النصوص القديمة، ولذلك عندما شرع العلماء الألمان في وضع قاموس برلين للغة المصرية القديمة والذي مازال مرجعاً أساسياً، بل الأول في العالم، استدعاه الألمان وكلفوه بنسخ النصوص المكتوبة والمحفوظة في جميع متاحف أوروبا، وقد أنجز المهمة بدقة، خلال هذه المرحلة قرر أن يرحل إلي مصر فلن تكتمل دراسته إلا إذا زار النبع الأصلي، خاصة أن آلاف النصوص منتشرة في مصر، هذا العمل العظيم الذي قام به لاستنساخ النصوص المصرية قام به وأصدره بالانجليزية وبعد حوالي مائة عام أقدم مجموعة من المثقفين المصريين من غير المتخصصين في المصريات علي ترجمته إلي العربية في خمسة مجلدات ضخمة وقد أشرت إليه في حينه، ترجمه أحمد محمود وراجعه الأستاذ الجليل جاب الله علي جاب الله رحمه الله وتشكلت هيئة النشر من رضا الطويل مشرفاً عاماً، وكمال رمزي الناقد السينمائي المعروف ورفعت السيد علي ومحمود الطويل وخالد الشلودي، لقد أنجزوا عملاً رائعاً عجزت عن مثله مؤسسات وزارتي الثقافة والآثار والأخيرة كان إنشاؤها نكبة علي الآثار من خلال التجربة العملية والمستمرة حتي الآن ولهذا حديث طويل أبسطه فيما بعد، وقد أصدر المشروع عدة كتب مهمة غير أنه في حدود متابعتي توقف الآن، عاد برستد إلي أمريكا، بعد توقف الحرب العالمية الأولي، استطاع إقناع روكفلر الملياردير الأمريكي بإنشاء المعهد الشرقي بجامعة شيكاغو، وهذا هو المبني الذي أقيم فيه الاحتفال التذكاري لتأبين الدكتور فاروق عبدالوهاب، وفيه جلست في غرفة برستد للتدريس، في الطابق الأول متحف يضم آثاراً من وادي النيل ومن بين النهرين، ومكتبة متخصصة في المصريات، اقتنيت منها ذلك الكتاب الضخم عن جيمس برستد، وفي حدود ما أعلم يعتبر الترجمة الوحيدة الدقيقة لحياته وإنجازه العلمي، في المتاحف، في المعاهد العلمية، في المستشفيات أقابل أسماء أفراد عائلة روكفلر، نموذج للدور الاجتماعي الذي يمكن أن يقوم به الرأسماليون في إطار نظام حقيقي له أصوله وقواعده وهذا ما نفتقده حتي الآن في مصر، يقول برستد عن الهدف من إنشاء هذا المركز:
»‬.. لكي يساهم في فهم الحياة الإنسانية عن طريق مسيرة التطور ومراحلها العديدة التي وصلت بنا إلي ما نحن عليه الآن، وتحفزنا هذه الغاية إلي الكشف عن دور حضارات الشرق الأدني المفقودة وهي الحضارات التي أرست أسس حضارة الغرب»..هذا المعهد الذي أسسه برستد في أمريكا يعتبر الآن أحد أهم مراكز دراسة التاريخ المصري في العالم، غير أن برستد أسس معهداً مهماً في مصر أيضاً.
بيت شيكاغو
منذ أن بدأ ترددي علي الأقصر عام 1960 وأنا أمر بمبني اسمه »‬بيت شيكاغو» معروف وله شهرة في المنطقة، كثيراً ما كنت أسأل نفسي: ما علاقة شيكاغو بالأقصر؟، لم أسأل ولم ينشأ ظرف يؤهل لدخوله أو للاستفسار عن إنشائه ومعرفة حقيقة عمله، إلي أن عرفت صلة برستد به فهو الذي أنشأه، عندما جاء إلي مصر عام 1924 بعد إنشائه لقسم في جامعة شيكاغو متخصص في نسخ الرسوم والكتابات الموجودة في المعابد الكبري والمراقد الأبدية بمنطقة الأقصر مع استخدام أحدث الوسائل التكنولوجية لتحقيق هذه الغاية، بعد أن بدأ القسم عمله في شيكاغو، جاء إلي مصر، بمنحة من روكفلر أيضاً، وفي عام 1931 أنشأ علي البر الشرقي معهداً أصبح معروفاً »‬بيت شيكاغو» قريباً من معهد الكرنك، ومن خلاله تتم جميع الأعمال العلمية في المنطقة، ويحتوي علي أماكن للإقامة ومكاتب ومراسم ومعامل تصوير ومخازن وورش، كما أنه يضم مكتبة نادرة ربما تكون الأغني في المصريات، وأتمني ألا يكون الإهمال قد امتد إليها كما جري في المكتبات المصرية التي تولاها موظفون معظمهم منعدمو الضمائر للأسف، لبيت شيكاغو مطبوعات مهمة منها وصف دقيق لمعبد هابو الذي بناه رمسيس الثالث ومعبد الكرنك وبعض مقابر البر الغربي، أشير هنا إلي مطبوعات المعهد الفرنسي بالمنيرة المعروف بالفاو، وقد قام العلماء فيه بنسخ جميع اللوحات والنصوص الموجودة في معبد، ولو أن في مصر حركة ثقافية حقيقية لتم ترجمة ما أنجزه برستد، والعلماء الفرنسيون وترجمة ما قدموه خدمة للحضارة المصرية من داخل مصر، من الأقصر وقنا وسوهاج وسائر المواقع، كتب المعهد الفرنسي تباع في المعهد الفرنسي بالمنيرة، ولكن لم يتم مشروع لذلك، أما ما يصدر في عواصم العالم فلن أتحدث عنه، لقد كنت أقف يومياً في المكتبة الملحقة بالمتحف المصري وأتأمل العناوين الرائعة للأبحاث المنجزة وأتمني لو اشتريتها كلها وأهديتها إلي المركز القومي للترجمة لكي ينجز ترجمتها، لكن كيف أنقل هذا كله، وإذا كان ذلك ممكنا لأن مصر للطيران قد تجاملني في بعض الوزن، فالأمر مستحيل في الطيران الداخلي الأمريكي الذي يحاسب الراكب علي أي جرام زائد عن الوزن المقرر عشرين كيلو جراماً اخترت هذا الكتاب الضخم يقع في حوالي ستمائة صفحة عن سيرة حياة برستد الذي توفي عام 1935 ودفن في مقابر جرين وود، روكفورد، ايلو نوي، علي بعد ثمانية أميال جنوب مدينة شيكاغو، مكان جميل جداً، غابة خضراء فسيحة يتوسطها حجر من جرانيت أسوان الوردي الذي نحتت منه المسلات الشهيرة، تحتها ترقد قارورة تحوي الرماد المتخلف عن جثمان جيمس هنري برستد الذي أوصي بحرق جسده، مكتوب عليها بالانجليزية ما ترجمته:
تحت حجر الجرانيت الأسواني المصري
يرقد رماد جيمس هنري برستد
المؤرخ
عالم المصريات والحفريات
وُلد في روكفورد إلينوي
27 أغسطس 1865
توفي في مدينة نيويورك
2 ديسمبر 1935
إلي الحجر الأسواني ذهبت، وقفت خاشعاً في الغابة وأديت التحية..
لماذا برستد؟
جيمس هنري برستد أول عالم مصريات يكشف المضمون الروحي الكوني العميق للحضارة المصرية القديمة، اكتشف من خلال دراسته للنصوص أن المصريين أول من أسس لفكرة الضمير، وأن عقيدتهم كانت تدور حول إله واحد له تجليات عديدة، ومن خلال النصوص أثبت ان الدين المصري كان أساسا للديانات التالية، قسم صفحة لكتاب في »‬فجر الضمير» إلي نصفين، اناشيد اخناتون في ناحية ومزامير داود في الناحية الأخري، الثانية تتطابق مع الأولي ولست في حاجة إلي القول بأسبقية النصوص المصرية فتلك حقيقة علمية وتاريخية، في فجر الضمير أورد نصوصا من حكم المفكر المصري »‬امينوبي» الذي يعتبر من أقدم الحكماء في تاريخ الإنسانية، وأورد نصوصا من سفر الأمثال في التوراة الذي يحمل القيم الأخلاقية للديانة الموسوية، وإنني أورد بعض أجزاء المقارنة التي أجراها برستد متوالية وليست متقابلة لأن ظروف الطبع في الجريدة لا تسمح.
يقول امينوبي الحكيم:
»‬أمل أذنيك لتسمع أقوالي
وأعكف قلبك علي فهمها
لأنه شيء مفيد إذا وضعتها في قلبك
ولكن الويل لمن يتعداها»
ويورد برستد ما جاء في سفر الأمثال العبراني:
»‬أمل أذنيك واسمع كلام الحكماء
ووجه قلبك لمعرفتي
كأنه حسن ان حفظتها في جوفك
إن ثبتت جميعا علي شفتيك..»
»‬سفر الأمثال: 22- 17 18»
قال امينوبي المصري:
»‬لا تزحزحن علامات حدود الحقول
ولا تكونن شرها من أجل ذراع
أرضي ولا تتعدين علي حدود أرملة
»‬امينوبي 7، 12 15»
جاء في سفر الأمثال العبراني:
»‬لا تنقل التخم القديم. ولا تدخل حقول الأيتام..»
سفر الأمثال 23 : 10
قال امينوبي المصري:
»‬الفقر في يد الله خير
من الغني في المخازن
وأرغفة تحصل عليها بقلب فرح
خير من ثروة تحصل عليها في تعاسة»
»‬امينوبي 9 : 5 - 8»
جاء في سفر الأمثال العبراني
القليل من مخافة الرب خير
من كنز عظيم مع هم
أكلة من البقول حيث تكون المحبة
خير من ثور معلوف ومعه بغضة
»‬ترجمة سليم حسن في فجر الضمير»
هكذا، كنت عامراً بذكري برستد عندما اتجهت يوم الاثنين الحادي عشر من سبتمبر إلي القاعة الشرقية، إلي الطابق الثاني فوق المتحف المصري حيث الحجرة التي اعتاد برستد التدريس فيها، تقع في مواجهة المصعد، كان البروفيسور مايكل سيلز ينتظرني، مجموعة من طلاب الدراسات العليا يبلغ عددهم حوالي أربعة عشر، سبورة ضخمة خضراء اللون في صدارة القاعة الصغيرة. بدأ مايكل بتقديمي إلي الطلبة، ثم استأذن منصرفا وبدأت حديثي الأول إليهم معرفا بي وبمن أكون وكيف كانت رحلتي الطويلة.
»‬كثيراً ما كنت أمر أمام هذا المقر الجميل في الأقصر وأسأل نفسي: ما العلاقة بين شيكاغو وهذا البيت، لماذا يسمي ببيت شيكاغو؟..»
شخصيتان تنتميان إلي جامعة شيكاغو سعدت بوجودي في المجال الذي ارتبطا به وعاشا فيه، الأول معروف للمثقفين في مصر، جيمس هنري برستد، أحد أعظم علماء المصريات في العالم عُرف في مصر عندما قررت وزارة المعارف العمومية في الثلاثينيات تدريس كتابه الذي صدر عام 1905 وترجم إلي العربية »‬تاريخ مصر القديم» علي طلاب المدارس الثانوية، وأحتفظ بنسخة أصلية من هذا السفر القيم الذي كان يعتبر وقت صدوره من أدق ما كُتب في تاريخ مصر حتي وقت صدوره، وفي عام 1955 ترجم الدكتور سليم حسن كتابه الذي بصرنا بروح مصر القديمة المفتري عليها نتيجة انتصار الرؤية التوراتية في التاريخ وسيادة رؤيتها السلبية لمصر وهذه مشكلة ثقافية عميقة تشكل شرخاً في الشخصية المصرية وتحتاج إلي جهد كبير لتصحيح المفاهيم، أهم منطلق في هذا التصحيح هو الحقيقة المؤكدة من خلال النصوص والآثار، أن المصريين القدماء لم يكونوا وثنيين، إنما كانوا يؤمنون بإله خالق للوجود، وأن الفرعون لم يكن طاغية علي الإطلاق، إنما كان رأساً للدولة، والفرعون المذكور في القرآن الكريم هو فرعون واحد فقط وليس الفرعون علي إطلاقه، كلمة فرعون تعني (البيت الكبير) أي رمز السلطة، كما نقول الآن »‬البيت الأبيض» ونعني بذلك رئيس الولايات المتحدة، »‬فجر الضمير» كتاب يجب أن يقرر علي المدارس الثانوية حتي يعرف النشء حقيقة الحضارة التي ينتمون إليها. لبرستد كتاب آخر عن الديانة المصرية القديمة وترجمه إلي العربية الدكتور زكي سوس، صدر عن دار الكرنك عام 1961، ويعتبر من الكتب الرائعة في فهم وشرح العقيدة المصرية القديمة والتي خرجت منها العقائد التالية لها التي ظهرت في الشرق كله، قال أندريه مالرو أديب فرنسا العظيم إن مصر هي التي اخترعت الأبدية، مشيراً إلي رفض المصريين لفكرة العدم النهائي، واعتبارهم أن الحياة جسر يعبر، وأن الموت بوابة لطريق لا نهائي يبدأه الإنسان بعد الحساب في المحكمة الأوزيرية، بعدها إما أن يمضي إلي حقول يارو أي الجنة في مفهوم المصريين القدماء أو إلي الجحيم، من الكتب الرائدة في العقيدة المصرية »‬الديانة المصرية القديمة» لأدولف أرمان، صدر عام 1904 في ألمانيا وترجم إلي العربية عام 1955 في مشروع الألف كتاب الذي أسسه طه حسين، لقد ظهرت حقائق عديدة عن مصر وعقائدها وتاريخها ويعتبر العالمان الألمانيان أريك هورننج، ويان اسمان، من أعظم علماء المصريات المتخصصين في الديانة المصرية القديمة، قرأت لهورننج كتبه المترجمة إلي اللغة العربية مثل »‬أفق الأبدية» عن عقيدة العالم الآخر، و»‬الوحدانية والتعدد» في الفكر المصري القديم، وأسهمت في التعريف بكتاب رائع نشر في أخبار الأدب مسلسلاً عندما دفعت به إلي المترجم القدير حسن حسين شكري ليترجمه من الانجليزية وصدر في مشروع الألف كتاب الثاني من الهيئة العامة للكتاب، أما يان اسمان فقد ترجم إلي العربية عدد من مؤلفاته، منها »‬ماعت» رمز الحق والعدل، و»‬مصر القديمة» الذي طبع في دار الجمل، وعن نفس الدار أيضاً صدر »‬التمييز الموسوي» بترجمة ويعتبر من أهم ما قرأت لأنه يفسر مسئولية الديانة الموسوية في اعتبار مصر القديمة وثنية، ورغم أنني حساس جداً فيما يتعلق بذكر ديانات الأشخاص إلا أنه لابد من الإشارة إلي يان اسمان وجيمس برستد، فكل منهما أنصف العقيدة المصرية والحضارة المصرية التي انبثقت عنها رغم معتقدهما الإيماني »‬اليهودية» لقد كانا عالمين جليلين متجددين، لا أعرف مثيلاً لهما في علماء المصريات من المصريين، صحيح هناك أسماء جليلة ونزيهة مثل محرم كمال وسليم حسن وجودت جبرة وأحمد فخري وعلي رضوان وجاب الله علي جاب الله وعبدالمنعم عبدالحليم وعبدالحليم نور الدين، لكن يظل دور علماء المصريات الأجانب أهم وأعمق، رغم ظهور مدرسة مصرية ماتزال في طور التكوين والنشوء، لأن رؤية الحضارة المصرية من داخلها أمر مختلف، لجيمس هنري برستد مؤلفات عديدة لم تترجم بعد من الانجليزية، وأثمن ما عدت به من شيكاغو كتاب نادر طُبع عام 1948 عن الخدم في مصر القديمة وقد عثرت عليه في مكتبة متخصصة في بيع الكتب المستعملة، تقع في نطاق الجامعة وقرب البيت الذي نزلت فيه، وكتاب آخر عن برستد نفسه، ترجمة لحياته كتبها »‬جفري أبت» وصدرت العام الماضي قبل وصولي بشهور، لم أتردد في شراء نسخة عندما لمحته معروضاً في المكتبة الملحقة بمتحف الحضارة الشرقية الذي أسسه وأنشأه برستد، في مبني القاعة الشرقية والذي يوجد فيه مكتبه وغرفة التدريس التي كان يُلقي فيها دروسه، والتي خصصت لي لكي ألقي فيها دروس شيكاغو، من هو برستد إذن وماذا يعني عندي؟
برستد
خلال المرحلة الطويلة مع البشر والكتب، علمتني التجربة أن ثمة صلات عميقة تقوم بيننا وبين الذين لم نلتق بهم ويفصلنا عنهم قرون عديدة، صلة من خلال النصوص، ذلك أن الإنسان يكون في جوهره من خلال ما يكتبه، إذا أتيحت الفرصة لمعرفته نصاً وشخصاً، كما جري لحسن حظي مع نجيب محفوظ، فيا للسعادة أما أولئك الذين عرفناهم من خلال كتبهم وآرائهم فما أقربهم بالنص، بما نضمنه من زفرات ورسائل مبثوثة، جيمس هنري برستد أنصف حضارة الأمة التي أنتمي إليها، أول حضارة في تاريخ الإنسانية، ولكم ظلمت هذه الحضارة حتي إن من حماها ورعاها وأقام العدل أصبح رمزاً للطغيان بسبب سوء الفهم، عندما وُلد برستد عام 1865 لم يكن هناك علم للمصريات في الولايات المتحدة، كانت فرنسا هي مركز علم المصريات بعدها ألمانيا، بدأ برستد تعليمه في كلية الصيدلة، وكان قد وُلد لأبوين هما شارلز وهاريت برستد، أنجبا أربعة أطفال ترتيبه الثالث بينهم، كان نشيطاً ذكياً، يهوي الصيد والرحلات الخلوية ولعبة البيسبول الكرة الأمريكية كان والده تاجراً ناجحاً ويمتلك معرضاً في وسط مدينة شيكاغو، غير أن برستد كان قد قرأ العهد القديم وأثار خياله ما عرفه من أحداث في مصر وبين النهرين، بدأ يتعلم اللغة العبرية، ثم بدأ يهتم بتاريخ مصر وحصل علي درجة علمية من جامعة ييل، إلا أن علم المصريات في الجامعات الأمريكية لم يرو ظمأه إلي معرفة تفاصيل هذه الحضارة، حصل علي منحة دراسية واتجه إلي ألمانيا للدراسة، وتتلمذ لواحد من أكبر علماء المصريات في التاريخ، أدولف أرمان وقد منحه درجة الدكتوراه في المصريات، حتي وجوده في ألمانيا لم يكن قد لمس أرض مصر، ولكن بعد زواجه جاء إليها ليمضي شهر العسل، كان ذلك عام 1894، بالطبع أستطيع تخيل حالته الروحية عندما لمس تراب البلد الذي عرف حضارته القديمة عبر النصوص والمراجع، عاد إلي الولايات المتحدة ليعمل بوظيفة إدارية بمتحف هاسكل Haskl للآثار الشرقية التابع لجامعة شيكاغو، تدرج في العمل الإداري ولم يتوقف عن البحث، أصبح أول أستاذ أكاديمي لعلم المصريات، شغل أول كرسي ينشأ في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن هنا يعتبر أول أستاذ للمصريات ومؤسس العلم بمصر في أمريكا، كان مجال تخصصه النصوص القديمة، ولذلك عندما شرع العلماء الألمان في وضع قاموس برلين للغة المصرية القديمة والذي مازال مرجعاً أساسياً، بل الأول في العالم، استدعاه الألمان وكلفوه بنسخ النصوص المكتوبة والمحفوظة في جميع متاحف أوروبا، وقد أنجز المهمة بدقة، خلال هذه المرحلة قرر أن يرحل إلي مصر فلن تكتمل دراسته إلا إذا زار النبع الأصلي، خاصة أن آلاف النصوص منتشرة في مصر، هذا العمل العظيم الذي قام به لاستنساخ النصوص المصرية قام به وأصدره بالانجليزية وبعد حوالي مائة عام أقدم مجموعة من المثقفين المصريين من غير المتخصصين في المصريات علي ترجمته إلي العربية في خمسة مجلدات ضخمة وقد أشرت إليه في حينه، ترجمه أحمد محمود وراجعه الأستاذ الجليل جاب الله علي جاب الله رحمه الله وتشكلت هيئة النشر من رضا الطويل مشرفاً عاماً، وكمال رمزي الناقد السينمائي المعروف ورفعت السيد علي ومحمود الطويل وخالد الشلودي، لقد أنجزوا عملاً رائعاً عجزت عن مثله مؤسسات وزارتي الثقافة والآثار والأخيرة كان إنشاؤها نكبة علي الآثار من خلال التجربة العملية والمستمرة حتي الآن ولهذا حديث طويل أبسطه فيما بعد، وقد أصدر المشروع عدة كتب مهمة غير أنه في حدود متابعتي توقف الآن، عاد برستد إلي أمريكا، بعد توقف الحرب العالمية الأولي، استطاع إقناع روكفلر الملياردير الأمريكي بإنشاء المعهد الشرقي بجامعة شيكاغو، وهذا هو المبني الذي أقيم فيه الاحتفال التذكاري لتأبين الدكتور فاروق عبدالوهاب، وفيه جلست في غرفة برستد للتدريس، في الطابق الأول متحف يضم آثاراً من وادي النيل ومن بين النهرين، ومكتبة متخصصة في المصريات، اقتنيت منها ذلك الكتاب الضخم عن جيمس برستد، وفي حدود ما أعلم يعتبر الترجمة الوحيدة الدقيقة لحياته وإنجازه العلمي، في المتاحف، في المعاهد العلمية، في المستشفيات أقابل أسماء أفراد عائلة روكفلر، نموذج للدور الاجتماعي الذي يمكن أن يقوم به الرأسماليون في إطار نظام حقيقي له أصوله وقواعده وهذا ما نفتقده حتي الآن في مصر، يقول برستد عن الهدف من إنشاء هذا المركز:
»‬.. لكي يساهم في فهم الحياة الإنسانية عن طريق مسيرة التطور ومراحلها العديدة التي وصلت بنا إلي ما نحن عليه الآن، وتحفزنا هذه الغاية إلي الكشف عن دور حضارات الشرق الأدني المفقودة وهي الحضارات التي أرست أسس حضارة الغرب»..هذا المعهد الذي أسسه برستد في أمريكا يعتبر الآن أحد أهم مراكز دراسة التاريخ المصري في العالم، غير أن برستد أسس معهداً مهماً في مصر أيضاً.
بيت شيكاغو
منذ أن بدأ ترددي علي الأقصر عام 1960 وأنا أمر بمبني اسمه »‬بيت شيكاغو» معروف وله شهرة في المنطقة، كثيراً ما كنت أسأل نفسي: ما علاقة شيكاغو بالأقصر؟، لم أسأل ولم ينشأ ظرف يؤهل لدخوله أو للاستفسار عن إنشائه ومعرفة حقيقة عمله، إلي أن عرفت صلة برستد به فهو الذي أنشأه، عندما جاء إلي مصر عام 1924 بعد إنشائه لقسم في جامعة شيكاغو متخصص في نسخ الرسوم والكتابات الموجودة في المعابد الكبري والمراقد الأبدية بمنطقة الأقصر مع استخدام أحدث الوسائل التكنولوجية لتحقيق هذه الغاية، بعد أن بدأ القسم عمله في شيكاغو، جاء إلي مصر، بمنحة من روكفلر أيضاً، وفي عام 1931 أنشأ علي البر الشرقي معهداً أصبح معروفاً »‬بيت شيكاغو» قريباً من معهد الكرنك، ومن خلاله تتم جميع الأعمال العلمية في المنطقة، ويحتوي علي أماكن للإقامة ومكاتب ومراسم ومعامل تصوير ومخازن وورش، كما أنه يضم مكتبة نادرة ربما تكون الأغني في المصريات، وأتمني ألا يكون الإهمال قد امتد إليها كما جري في المكتبات المصرية التي تولاها موظفون معظمهم منعدمو الضمائر للأسف، لبيت شيكاغو مطبوعات مهمة منها وصف دقيق لمعبد هابو الذي بناه رمسيس الثالث ومعبد الكرنك وبعض مقابر البر الغربي، أشير هنا إلي مطبوعات المعهد الفرنسي بالمنيرة المعروف بالفاو، وقد قام العلماء فيه بنسخ جميع اللوحات والنصوص الموجودة في معبد، ولو أن في مصر حركة ثقافية حقيقية لتم ترجمة ما أنجزه برستد، والعلماء الفرنسيون وترجمة ما قدموه خدمة للحضارة المصرية من داخل مصر، من الأقصر وقنا وسوهاج وسائر المواقع، كتب المعهد الفرنسي تباع في المعهد الفرنسي بالمنيرة، ولكن لم يتم مشروع لذلك، أما ما يصدر في عواصم العالم فلن أتحدث عنه، لقد كنت أقف يومياً في المكتبة الملحقة بالمتحف المصري وأتأمل العناوين الرائعة للأبحاث المنجزة وأتمني لو اشتريتها كلها وأهديتها إلي المركز القومي للترجمة لكي ينجز ترجمتها، لكن كيف أنقل هذا كله، وإذا كان ذلك ممكنا لأن مصر للطيران قد تجاملني في بعض الوزن، فالأمر مستحيل في الطيران الداخلي الأمريكي الذي يحاسب الراكب علي أي جرام زائد عن الوزن المقرر عشرين كيلو جراماً اخترت هذا الكتاب الضخم يقع في حوالي ستمائة صفحة عن سيرة حياة برستد الذي توفي عام 1935 ودفن في مقابر جرين وود، روكفورد، ايلو نوي، علي بعد ثمانية أميال جنوب مدينة شيكاغو، مكان جميل جداً، غابة خضراء فسيحة يتوسطها حجر من جرانيت أسوان الوردي الذي نحتت منه المسلات الشهيرة، تحتها ترقد قارورة تحوي الرماد المتخلف عن جثمان جيمس هنري برستد الذي أوصي بحرق جسده، مكتوب عليها بالانجليزية ما ترجمته:
تحت حجر الجرانيت الأسواني المصري
يرقد رماد جيمس هنري برستد
المؤرخ
عالم المصريات والحفريات
وُلد في روكفورد إلينوي
27 أغسطس 1865
توفي في مدينة نيويورك
2 ديسمبر 1935
إلي الحجر الأسواني ذهبت، وقفت خاشعاً في الغابة وأديت التحية..
لماذا برستد؟
جيمس هنري برستد أول عالم مصريات يكشف المضمون الروحي الكوني العميق للحضارة المصرية القديمة، اكتشف من خلال دراسته للنصوص أن المصريين أول من أسس لفكرة الضمير، وأن عقيدتهم كانت تدور حول إله واحد له تجليات عديدة، ومن خلال النصوص أثبت ان الدين المصري كان أساسا للديانات التالية، قسم صفحة لكتاب في »‬فجر الضمير» إلي نصفين، اناشيد اخناتون في ناحية ومزامير داود في الناحية الأخري، الثانية تتطابق مع الأولي ولست في حاجة إلي القول بأسبقية النصوص المصرية فتلك حقيقة علمية وتاريخية، في فجر الضمير أورد نصوصا من حكم المفكر المصري »‬امينوبي» الذي يعتبر من أقدم الحكماء في تاريخ الإنسانية، وأورد نصوصا من سفر الأمثال في التوراة الذي يحمل القيم الأخلاقية للديانة الموسوية، وإنني أورد بعض أجزاء المقارنة التي أجراها برستد متوالية وليست متقابلة لأن ظروف الطبع في الجريدة لا تسمح.
يقول امينوبي الحكيم:
»‬أمل أذنيك لتسمع أقوالي
وأعكف قلبك علي فهمها
لأنه شيء مفيد إذا وضعتها في قلبك
ولكن الويل لمن يتعداها»
ويورد برستد ما جاء في سفر الأمثال العبراني:
»‬أمل أذنيك واسمع كلام الحكماء
ووجه قلبك لمعرفتي
كأنه حسن ان حفظتها في جوفك
إن ثبتت جميعا علي شفتيك..»
»‬سفر الأمثال: 22- 17 18»
قال امينوبي المصري:
»‬لا تزحزحن علامات حدود الحقول
ولا تكونن شرها من أجل ذراع
أرضي ولا تتعدين علي حدود أرملة
»‬امينوبي 7، 12 15»
جاء في سفر الأمثال العبراني:
»‬لا تنقل التخم القديم. ولا تدخل حقول الأيتام..»
سفر الأمثال 23 : 10
قال امينوبي المصري:
»‬الفقر في يد الله خير
من الغني في المخازن
وأرغفة تحصل عليها بقلب فرح
خير من ثروة تحصل عليها في تعاسة»
»‬امينوبي 9 : 5 - 8»
جاء في سفر الأمثال العبراني
القليل من مخافة الرب خير
من كنز عظيم مع هم
أكلة من البقول حيث تكون المحبة
خير من ثور معلوف ومعه بغضة
»‬ترجمة سليم حسن في فجر الضمير»
هكذا، كنت عامراً بذكري برستد عندما اتجهت يوم الاثنين الحادي عشر من سبتمبر إلي القاعة الشرقية، إلي الطابق الثاني فوق المتحف المصري حيث الحجرة التي اعتاد برستد التدريس فيها، تقع في مواجهة المصعد، كان البروفيسور مايكل سيلز ينتظرني، مجموعة من طلاب الدراسات العليا يبلغ عددهم حوالي أربعة عشر، سبورة ضخمة خضراء اللون في صدارة القاعة الصغيرة. بدأ مايكل بتقديمي إلي الطلبة، ثم استأذن منصرفا وبدأت حديثي الأول إليهم معرفا بي وبمن أكون وكيف كانت رحلتي الطويلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.