ترفع الليبرالية عند أنصارها الذين يترجمونها إلي العربية بالتحررية رايات حرية الفرد. واقتصاد السوق والمشروع الخاص والديمقراطية البرلمانية التي تمثل كل أطياف الشعب وحق معارضة السلطة وتغييرها بواسطة صناديق الانتخابات النزيهة, ويزعمون أنها حاملة مبادئ الحرية والتقدم. أدي انهيار النظم الشيوعية إلي إعادة الاحترام نسبيا للسوق الرأسمالية ومشروعها الخاص ونظمها البرلمانية مما وضع في الوعي المنتشر ارتباطا خادعا بين الصالح العام والمصالح المسيطرة الخاصة للرأسماليين المستثمرين. فلولا تحقيقهم مكاسب معقولة لتفاقمت البطالة بين العاملين. إن اقتصاد السوق في هذا الوعي يضمن توافق المصالح بين العاملين والملاك, لذلك يحقق الحرية السياسية حتما المشروطة بالحرية الاقتصادية الرأسمالية التي تكفل الحرية السياسية للجميع. ولكن هذا التطابق الكاذب بين صالح المجتمع عموما وملكية أقلية ضئيلة العدد لوسائل الإنتاج, وحرمان الأغلبية منها جعل الملكية الخاصة تبدو لا غني عنها لذلك هي مقدسة. وجعل الذين لا يملكون ليسوا أفرادا بمعني الكلمة, بل كائنات زائدة عن الحاجة في خدمة أصحاب الملكية إن تفضلوا بشراء قوة عملهم. إن الليبرالية برغم تشدقاتها بالحرية تلغي أهم الحقوق الإنسانية للفرد وهو حق العيش بواسطة إتاحة العمل للراغبين فيه, القادرين عليه. ويبدو العالم الرأسمالي في الإيديولوجية الليبرالية محصنا ضد التغيير, فهو حافل الآن بعوامل الاستقرار, لأن ما كان يظهر من ثورة معادية للرأسمالية عند الطبقة العاملة خنقه شلال من إمكان حيازة ثمرات الوفرة الاستهلاكية في بلاد الرأسمالية المتطورة. وبذلك اتجهت نقاباتها وتنظيماتها السياسية في بيروقراطيتها ومراتبيتها إلي التكيف مع أصحاب الأعمال وأفكارهم السائدة. وأمسي العمال في هذا الوهم مثل الجميع ينتمون إلي الطبقة الوسطي في مجتمع بلا طبقات. لكن شيئا حدث بفعل تداعيات الأزمة الرأسمالية في حركة احتلوا وول ستريت في الولاياتالمتحدة, البلد الذي كان النموذج المثالي لليبراليين في العالم. إنها حركة تصرخ وتتحرك علي عكس مزاعم الليبرالية التي تقول إنها احتجاج ممثلي99% من الأمريكان رفستهم الآزمة خارج مساكنهم وأنكرت عليهم حق العمل والعلاج, وإذا عملوا فإنهم يعملون ساعات شاقة مقابل أجر ضئيل, أما الواحد في المائة من مالكي الرأسمال فيحصلون علي كل شيء. وكيف يمكن لنظام يحابي واحدا في المائة من المواطنين علي حساب التسعة وتسعين أن يكون ديمقراطيا؟ علي الرغم من ذلك فإن الليبرالية تظل تقليدا فكريا واسع الانتشار داخل الوعي الجماهيري في الغرب الرأسمالي, بل يعتبر هناك تقليدا أساسيا كأنه الفطرة السليمة والعقل السليم وليس أيديولوجية تبريرية. وهو رؤية تنسب لفرد الطبقة الوسطي طبيعة أبدية وتدعي أن العلاقات الرأسمالية نابعة من طبيعة المجتمع بوصفه مجتمعا, ومن الفرد الإنساني بحكم طبيعته. والفرد أصل أول والمجتمع مشتق ثانوي منه. والليبرالية إطار ضروري للحياة الاجتماعية من زاوية المصرفي والتاجر ومالك المصنع ولا تجعل الامتياز مترتبا علي المولد وملكية الأرض, كما كانت الحال في المجتمعات السابقة, بل تؤسس عقدا اجتماعيا بين الأفراد وتقيد سلطة الدولة بالدستور وتتيح للفرد أن يكون فاعلا حرا مسئولا لا تشله تبعيات القرون الوسطي لقوي يعجز عن فهمها. لذلك شاع تطابق في الوعي الجماهيري الغربي منذ زمن بعيد بين الليبرالية والديمقراطية, وثمة تناقض حاد بين شعارات الليبرالية المعلنة عن مجتمع الفرص المتساوية والرخاء في متناول الجميع وما يحدث في الواقع. في مصر في قراءات حديثة تستحضر الماضي بطريقتها ارتبطت الليبرالية بوفد ثورة1919 الذي لم تكن جماهيره الغفيرة تعرف الكلمة بمطالبته بالاستقلال والدستور بصورة مثالية لهذه الثورة دون ارتباط بأي مصالح طبقية: مصالح التجار أو أعيان الريف أو اللبنات الأولي لبنك مصر. ووقفت هذه الليبرالية عند نظام ملكي دستوري, وتحقيق حريات تعبير وتظاهر وحريات سياسية في التنظيم الحزبي مع تحريم الحزبين الشيوعي والجمهوري وحقوق نقابية شديدة المحدودية. وفي هذه القراءة كانت الليبرالية تيارا رئيسيا في فكر ألمع المثقفين: أحمد لطفي السيد والعقاد. ولم تستطع الليبرالية الإطاحة بالنظام القديم, نظام التبعية والنصف في المائة, ولكنها أسهمت في زعزعة مصداقيته. وجاءت الناصرية وألغت الحياة السياسية الشعبية وحاربت الليبرالية. ثم جاءت عودة صورية لليبرالية في الانفتاح الساداتي والتحالف مع أمريكا والمعسكر الرأسمالي والسماح بنظام التعدد الحزبي المقيد والسلام مع إسرائيل وتشجيع الاستثمارات العربية والغربية والحديث عن الصحافة كسلطة رابعة برغم تكوين مجلس أعلي للصحافة تحت قيادة الحزب الحاكم. وبدلا من صحفيين ذوي ميول ليبرالية تصدر ساداتيون مخلصون للرئيس مثل أنيس منصور وموسي صبري. واختفت الليبرالية رسميا أيام مبارك: رأسمالية المحاسيب والدولة البوليسية, ولكنها في وعي بعض المثقفين اختلطت بدولة الرعاية الاجتماعية وخصوصا الاسكندنافية, وصارت شعارا للمعارضة والثورة مطالبة بالعدالة الاجتماعية, كما دعا بعض الاشتراكيين إلي تطعيم الاشتراكية بالليبرالية برغم تناحر أسسهما, وظلت الليبرالية تعني أشياء هلامية متعارضة. المزيد من مقالات ابراهيم فتحى