في قاعات تدريس الفكر السياسي والنظرية السياسية تحتل القيم موقعاً مركزياً، فالسياسة ليست فقط فن الممكن والحلم بالمستحيل، وتوظيف القوة والموارد لذلك، بل هي أيضاً الإدارة الأفضل للمجتمع وقيمه التي يتأسس عليها نظامه العام كي تتوفر فيه للفرد أعلي درجة من تحقيق الذات والفضيلة وتصل الجماعة أعلي درجات الخيرية بتحقيق المصلحة العامة. وقد اختلفت المنظومات الفكرية والفلسفية والدينية حول تعريف مفهوم التحقق الذاتي ومقومات الفضيلة والخيرية والمصلحة، وتنازعت الأيديولوجيات الحديثة حول تعريف ومعاني هذه الكلمات، والكل يدعي وصلاً بالأخلاق والقيم، فيحتكر تعريفها هو ويحدد من خلال منظومته الفكرية ومنطلقاته المعرفية سبل الوصول إليها في منظوره، ما بين المساواة والتشارك في الملكية العامة بسلطة الدولة وقوتها في الاشتراكية، إلي الفردية والتنافس الذي يستبطن رؤية الصراع والبقاء للأصلح (أي الأكثر توحشاًً كما صوره داروين) في الليبرالية الاقتصادية، والتي حاولت تجميلها الواجهة الفكرية لليبرالية بالحديث عن التسامح والحرية، مروراً باللاسلطوية (التي تُسمي أحياناً بالفوضوية وهذا خطأ شائع) والتي رأت الفرد قادراً في مجتمع حر علي إدارة المجتمع والسوق دون حاجة لهيمنة الدولة التي لو تم استبقاؤها ففي حدها الأدني لتسيير الإجراءات وتسهيل دولاب العمل اليومي البسيط، حيث القيمة الأكبر هي تحجيم السلطة وإطلاق الحريات وتطوير آليات الضبط والحماية من قلب توازنات المجتمع ونسيجه الفعال. وقد تطورت أيديولوجيات حديثة جديدة تركز علي أن الحرية لا يمكن أن تتحقق دون الأخذ في الاعتبار الفروق وليس المشتركات، ومن هنا الحاجة لمفهوم مركب للمساواة يكفلها ليس فقط للأفراد بل للجماعات الثقافية والعرقية من خلال منظومة مركبة للمواطنة، ومن هنا بزوغ قيمة التعددية الثقافية، أو التركيز علي مساواة المرأة في الدراسات النسوية التي تؤكد أن الحرية لم تكن حرية للجميع بل للرجال دون النساء وافتقرت للمساواة الحقيقية عبر التاريخ حتي في تاريخ الليبرالية نفسها، وصولاً للنظريات البيئية التي تعتبر الطبيعة والحفاظ عليها وليس الهيمنة عليها كما أرادت الحداثة، وأن تحقق الاستدامة قيمة مركزية، والحفاظ علي الطبيعة مسألة أخلاقية لأنها تحفظ حقوق الأجيال القادمة وتحترم حقوق الشعوب التي تدفع ثمن التقدم دون أن تشارك في منافعه، ومن هنا نقدها تاريخ الاستعمار وفتحها ملفات كثيرة متعلقة بعبور الفجوات المختلفة الناتجة عن تقدم الغرب الذي تأسس علي استغلال الشعوب الأخري: من فجوة علمية لفجوة اقتصادية لفجوة إبداعية، مع الوعي المتزايد بقيمة رأس المال الأخلاقي والاجتماعي الذي لم يستطع الاستعمار القديم أن يستلبه ويستنزفه كما استنزف الثروات، والمهدد اليوم نتيجة تصاعد قيم السوق وتنامي الفردية وتآكل العلاقات الإنسانية في ظل عولمة الرأسمالية الشرسة وطغيان ثقافة الاستهلاك، ليس استهلاك السلع فحسب بل استهلاك المكان والإنسان وتردي قيمة البشر الذين صاروا بدورهم سلعة، ومن هنا تضافر الجهود لمكافحة ظواهر الاتجار في البشر وفي أعضاء أجسادهم في عصر ترفع فيه القوي المهيمنة شعارات نهاية التاريخ والوصول لقمة الحضارة. في هذا السياق يقدم البعض القيمة المركزية في الإسلام باعتبارها العدل، ويرون أنها القيمة الوسط بين الحرية والمساواة، وهو ما نتج عن البحث عن موقف من الرأسمالية والاشتراكية وجد العقل المسلم أنه مطالب به فقرر أن الوسطية هي العدل، تقييدا لحرية مطلقة تقوم علي التنافس رغم أن نقطة البدء في سباق الحياة ليست واحدة من حيث الفقر والغني والمواقع الاجتماعية والثقافة ووضع الفرد في أغلبية أو أقلية - عرقية كانت أم دينية، ومن ناحية أخري وعياً بأن المساواة الكاملة لا تسمح بإطلاق طاقات الفرد. كان الحل في نظر الفكر الإسلامي أن يقدم قيمة العدل لتجمع أشتات المجتمعات تحت مظلة وتقدم مفهوم الجماعة، لكن لا تغبن الفرد حقه وفق قدراته، ومن هنا تطوير مفهوم الدرجات المتضافرة وليس الطبقات المتنازعة. لكن القيمة المركزية التي تم تجاهلها في سياق الفكر السياسي الإسلامي لفترة طويلة رغم التركيز عليها في الخطاب الديني والوعظ والدعوة هي قيمة الرحمة، وبقيت تلك القيمة في الفكر المعاصر أسيرة الحيز الاجتماعي ولم تعتبر ذات صلة بالسياسة التي هي ساحة المصالح والتدافع وممارسة القوة والأمر والنهي والحكم والفصل. اليوم نحن في حاجة لاستعادة هذه القيمة بقوة في تفكيرنا السياسي في زمن أصبح فيه مفهوم السياسة ذاته يتجه نحو مزيد من الإنسانية، فحقوق الأقليات والحقوق الثقافية وحقوق المرأة واحترام الطبيعة البيئية تدور في فلك قيم أخلاقية يتم إعادة تعريفها طول الوقت تأسيساً علي خلفيات متنازعة، فأنصار حقوق المرأة ينسبون لها قيمة الرعاية وللرجال قيمة الصراع، ومطالب الحقوق الثقافية والحقوق الجسدية تتحدث عن تنوع القيم ونسبيتها تارة والحق في اختلاقها واختراعها من جديد تارة أخري، والساحة أصبحت ساحة القيم لكن من مشارب مختلفة. قيمة الرحمة هي القيمة العليا التي نحتاج استرجاعها لأن السياسة في النهاية عمل إنساني وفعل بشري في السلم والحرب، ومن هنا الحاجة لأن نتذكرها في السياسة والاجتماع والاقتصاد. السياسة ينقصها كثير من العدل وقليل من..الرحمة.