من السهل استنكار الأفكار الشاذة, التي يقذف بها بعض المتأسلمين في شكل فتاوي غريبة ومنكرة, لأنها تهزم نفسها قبل أن يحاربها العقلاء, فحتي الجهلة والأغبياء من النادر أن يستسيغوا فتاوي كإرضاع الكبير وتحريم ميكي ماوس, وإفساد أكل الدود للصيام, والتبرك والتداوي ببول النبي عليه الصلاة والسلام, لأنها كلها مما تأنف منه الفطرة السليمة العاقلة, ولا تشغل أحدا إلا أعداء الإسلام, الذين يتصيدون مثل هذه الأشياء لتساعدهم علي التشهير بأصحاب الدين الإسلامي, الذي اتخذوه عدوا تاريخيا أيديولوجيا بعد تخلصهم من الخطر الأيديولوجي الشيوعي. الخطر الحقيقي علي الإسلام والمسلمين هو محاولة التلفيق الفكري, فيراد له أن يتحول ل(دوجما) فكرية, وليس علي حقيقته كدين سماوي يعتمد علي العقل والمنطق والاجتهاد الفكري, للوصول إلي مقاصده النبيلة, التي تشكل لب القرآن الكريم المصدر الأول للإسلام, فالآيات القرآنية تستند إلي البراهين العقلية وتستنكر قول الكافرين إنا وجدنا آباءنا علي أمة وإنا علي آثارهم مقتدون, فالتقليد الأعمي والتعصب للموروث دون النظر فيه كما أفهم ليس من الإسلام. فالدين الإسلامي كفكر متفتح خلاق ومتجدد كان ملهما لعلماء المسلمين, وغير المسلمين أيضا, فكان نقطة الانطلاق التي قام عليها الفقه الإسلامي, الذي تعامل مع الأزمنة والأماكن المختلفة, حسب المجتمعات ودرجة تطورها ونموها, وأيضا كان لفكر (ابن رشد) تأثيره التاريخي في التحول الفكري الأوروبي, عندما وفق بين الشريعة والحكمة الفلسفية لأرسطو. وجعلت الأسس الإسلامية المفكر الألماني (جوته) يصرح بموضوعية المفكرين العظام فيقول: من حماقة الإنسان في دنياه, أن يتعصب كل منا لما يراه, وإذا كان الإسلام معناه التسليم لله, فإننا جميعا نحيا ونموت مسلمين!. هذا الأفق الواسع للإسلام كدين للرحمة والإنسانية, هناك في الداخل والخارج من يضيق من رحابته, ليقتصر علي كونه أيديولوجية سياسية مفارقة للتاريخ وعنصرية الحاكمين من الزمان والمكان, فيحاول بعض المفكرين في الغرب وأشهرهم المحافظون الجدد إلصاق الإرهاب في التكوين الفكري للإسلام والمسلمين, وسمعت أحدهم في إحدي الفضائيات مقتنعا تمام الاقتناع بأن المسلمين يحلمون بغزو فيينا, ويعيشون الإحباط منذ فشلهم في هدم أسوارها من قبل, وهم السيطرة علي العالم ليس في رءوس المسلمين الذين تزداد أحوالهم سوءا من الجهل والفقر الذي يحاصرهم, ولكن في تكوين الرأسمالية المتوحشة الجديدة, التي لا تكف عن محاولة السيطرة علي الحكومات الأمريكية لتجعل منها ضمانة وغطاء لسلطة الشركات الدولية العابرة للقوميات والقارات, وهي ما أطلق عليه (تيودور روزفلت) فاشية جديدة! محاولة إلصاق الإرهاب بالإسلام وسيلة غير أخلاقية, لهدم مجتمعات مسالمة تطمح للتطور والحداثة مع الحفاظ علي شخصيتها وهويتها الحضارية, دون الصدام مع الآخرين بينما جماعات التشدد والإرهاب الفكري والمادي يتم احتضانها في أوكار مخابراتية للإضرار بالمجتمعات الإسلامية, وتجرها إلي معارك أيديولوجية وهمية, فهل هناك من المسلمين حقا من يحلم بغزو فيينا؟! أم في هذا الزمان الوحوش الفاشية الكبيرة تأوي الوحوش الصغيرة. بالطبع هناك المتطرفون في المجتمعات الإسلامية كما في غيرها, ولكن يجب التنبيه عن مصادر تقويتها ودعمها, أي المنابع غير الجافة التي تغذيها, غذتها عند مواجهة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان, ثم عندما انسحب الاتحاد السوفيتي, أخذت الفصائل السياسية الأيديولوجية تتناحر علي السلطة, فكل منها يري نفسه الأحق والأصوب في عمي أيديولوجي بعيد تماما عن روح الإسلام, نفس المنابع تغذي التطرف الأعمي في سوريا الآن, في تفجيرات إرهابية ضد المسلمين وباسم الإسلام! ولكن لتحقيق أهداف سياسية!. أعتقد أن ذلك هو الخطر الحقيقي, علي الإسلام كدين قيم رحمة للعالمين, وعلي المسلمين كمجتمعات تناضل من أجل البقاء, وكثير منهم يموت غرقا علي شواطئ أوروبا طلبا للرزق, لا طلبا للجهاد وغزو فيينا, الربط بين الإسلام والإرهاب, يمر أولا بتحويله من دين منفتح متجدد متعايش مع غيره من الأمم والشعوب إلي أيديولوجيا منغلقة علي نفسها, تتصارع مع غيرها من الأيديولوجيات المغلقة, كما حدث في أفغانستان والصومال والعراق.. والأيديولوجية وحشية مهما إدعت الاعتدال والوسطية. ويحلو لبعض الإسلامجية البعيدين تماماعن الإسلام, التفاخر بالتجربة التركية كأنها تعبير عن أيديولوجيته الخاصة, بينما النموذج التركي لم يجد تعارضا بين تدين قادته وترسيخ الدولة الحديثة علي أسس غير دينية, وتعزيز المواطنة علي أسس غير إثنية, وابتعدوا كل البعد عن الطروحات الأيديولوجية الجامدة للإسلامجية, وركزوا علي حل قضايا المجتمع الأساسية, وعالجوا الحساسية العرقية مع الأكراد والأرمن, ولم يشغلوا أنفسهم بالختان وتعدد الزوجات وتنميط المرأة في قوالبهم الجاهزة. أما في السياسة.. فقد اتضح للعيان كيف أنهم في تركيا قطعوا شوطا بعيدا في البراجماتية السياسية لتحقيق مصالحهم في المنطقة, والتحالف مع الغرب لأقصي درجة, تمكنهم من الانضمام للاتحاد الأوروبي, لا العودة للخلافة العثمانية كما يروج أو يتوهم الإسلامجية العرب. الذين لايدرون شيئا عن السياسة, ولا عن الإسلام, وإلا كيف نفسر فتاوي القتل والإرهاب والغزو؟! التي لا يدفع فاتورتها الباهظة إلا المسلمون من دمائهم وأموالهم ومستقبلهم! فعذرهم الوحيد أن اللي ما يعرفش الصقر يشويه! فكيف ارتضي شيوخ الناتو أكل لحوم المسلمين ميتا ؟! أين ضمائرهم؟! أيضا.. أين ضمائرنا جميعا؟! الأيديولوجيا عمياء تدعي إحاطتها بالحقائق الاجتماعية في حين وعيها الزائف يفكك المجتمع ويهدم بنيته الكلية التي تجمع الجميع, ويحوله إلي أنساق وتنظيمات وجماعات متبلورة علي نفسها, كل بنية ترفض الأخري وتدخل معها في صراعات للقوة يؤججها الغرور الأيديولوجي المتعجرف صاحب الحقيقة الكاملة, فيري الكاتب الأمريكي (صامويل باتلر) أن أصدق صفة تعبر عن الجهل هي الغرور والزهو والتكبر, والقدرة علي الجدل ليست تعبيرا عن المعرفة بقدر ما هي تعبير عن اللدد في الخصومة والمراء, وهو ما نهي الرسول (محمد) صلي الله عليه وسلم فقال: ذروا المراء فإنه لا تفهم حكمته ولا تؤمن فتنته! فالجدل مهارة في اللعب بالألفاظ والأفكار, فقد رأينا المجادلين بالباطل كيف وصفوا بسهولة خصومهم في الرأي بأنهم سحرة فرعون أو قوم لوط أو كفار مكة! عجزهم عن إنتاج فكر حديث يقوم علي حكمة الإسلام للوصول إلي المدينة الفاضلة, يظهر في خشونتهم لفرض أفكارهم السطحية, التي لا تصمد أمام المنطق والعلم والحكمة, وإن كانوا علي حق لما لجأوا لهذه الغلظة والفظاظة, فليس المؤمن بطعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء. فشتان بين فهم للدين يأسر كبار المفكرين المحايدين كجوته وبرنارد شو, وبين فهم للدين فقير يخشي الاجتهاد ويلعن المجتهدين ويتغذي علي أموال أعداء الإسلام ودماء المسلمين. المزيد من مقالات وفاء محمود