مهما يكن المرشح الفائز في انتخابات رئاسة الجمهورية المصرية, سواء في جولتها الأولي أو في جولة الإعادة, وبجانب ما اقترحه كثير من الخبراء من أولويات للرئيس الجديد, سواء في مجالات استعادة الأمن أو إنعاش الاقتصاد أو غير ذلك. فقد أعلن جميع المرشحين تقريبا أن كلا منهم سوف يسعي, حال انتخابه, إلي بناء حالة توافق وطني بين مختلف الأطياف الفكرية والسياسية والاجتماعية المصرية حول كيفية النهوض بالوطن وصياغة خريطة طريق لهذا الغرض في مختلف المجالات. ولا خلاف علي الإطلاق في مشروعية هذه الأولوية وأهميتها, بل وضرورتها في ضوء الظروف التي تمر بها مصرنا الغالية حاليا. إلا أن الوصول إلي أعتاب عملية السعي لبناء هذا التوافق الوطني يستلزم, من وجهة نظرنا المتواضعة, تحقق شرط سابق علي انطلاق تلك العملية, وأعني هنا تحقيق مصالحة تاريخية مطلوبة منذ زمن ومتأخرة عن موعدها. أود أن أوضح أن المقصود بالمصالحة التاريخية في هذا السياق هو إجراء مصالحة بين مراحل تاريخ مصر الحديث والمعاصر المختلفة من جهة, والسعي لتسوية وتجاوز المرارات التاريخية المتراكمة نتيجة صراعات ومواجهات حدثت بين تيارات فكرية أو قوي سياسية أو اتجاهات اجتماعية مختلفة في فترات سابقة من تاريخ مصر منذ جلاء الحملة الفرنسية عن مصر عام1801 من جهة أخري, والمصالحة التي نتطلع إليها هنا تأتي في الأساس فكرية وثقافية, ولكنها أيضا سياسية واجتماعية المحتوي والدلالة. فعندما نتحدث عن مصالحة بين مراحل تاريخ مصر الحديث والمعاصر المختلفة, فإننا نسعي لتصحيح خلل نتج عن أن كل مرحلة سعت, إما إلي نفي المرحلة السابقة عليها أو علي الأقل تشويهها أو علي أفضل تقدير التقليل من شأن ما تحقق فيها من إنجازات وكذلك تضخيم ما تم خلالها من إخفاقات, حتي وإن كان البعض يقول إن هذه المسألة عادة مصرية قديمة منذ عهد الفراعنة, حيث كان كل فرعون يأتي إلي الحكم يسعي عبر عملية التلاعب في الرسوم الموجودة علي جدران المعابد إلي إزالة ما يشير إلي إنجازات سلفه أو تشويهها أو حتي نسبتها إلي نفسه وإضافتها إلي ما قام به هذا الفرعون نفسه, وبفرض صحة هذا التقدير, فإنه حان الوقت لإجراء مراجعة شاملة لهذا النهج بغرض التخلص منه بروح مصر الجديدة. وتستند المصالحة التاريخية المقترحة من جهة إلي الإقرار بأن كل مرحلة مرت بها مصر في تاريخها الحديث والمعاصر كانت بها إيجابيات وإنجازات وأيضا شهدت سلبيات وإخفاقات, لكن في نهاية الأمر كانت كل مرحلة, سواء وعت ذلك أم لا, تبني علي ما تحقق قبلها أو تسعي إلي تعديله بما حقق بمرور الزمن نسيجا تراكميا يصعب الفصل بين مكوناته المختلفة ونسبة أي مكون منه بشكل مطلق أو كامل لمرحلة زمنية دون أخري, فعلي سبيل المثال لا الحصر, كانت قوانين الإصلاح الزراعي التي مررتها حكومة ثورة23 يوليو1952 بدءا من سبتمبر1952 في الواقع مبنية علي طرح كان لدي بعض القوي السياسية المصرية, خاصة الحزب الاشتراكي لكن أيضا قطاعات داخل حزب الوفد, حزب الأغلبية في ذلك الوقت وعدد من التنظيمات الشيوعية, في الحقبة الملكية السابقة علي اندلاع ثورة يوليو. كما تستند المصالحة التاريخية التي ننشدها هنا من جهة أخري إلي النظر إلي كل صراع بين طرفين أو أكثر باعتباره كان في جزء منه صراعا علي السلطة مع التقدير بأن كل طرف كان يري أن وصوله إلي السلطة كان يمثل وسيلة لتطبيق رؤيته لتحقيق تحرر الوطن ونهضته وتنميته وتقدمه وتحرير الإنسان المصري وإطلاق طاقاته وإمكاناته البناءة وضمان حقوقه وحرياته, وذلك بالطبع وفقا لمنطلقات ومرجعيات كل تيار أو فصيل فكري أو سياسي, وفي جزء آخر كان هذا الصراع في الأساس صراعا بين اجتهادات مختلفة فلم يكن بين وطنيين وخونة أو بين مؤمنين وكفار بل بين اتجاهات مختلفة نظر كل منها لمصلحة الوطن من منظور مختلف بحسب زاوية الرؤية والمسلمات والافتراضات التي تؤدي به إلي نتائج قد تختلف أو تتفق مع ما يخلص له تيار آخر. ويدخل في هذا الإطار, مرة أخري علي سبيل المثال لا الحصر, الصراع بين القيادة الناصرية وكل من جماعة الإخوان المسلمين وحزب الوفد وعدد من التنظيمات الشيوعية خلال الفترة من عام1952 إلي عام.1970 وبالتالي, فإن هذه المصالحة التاريخية تستلزم إقرار كل طرف في المشهد الوطني المصري مسبقا بأنه يمتلك جزءا من الحقيقة وأن الأطراف الأخري كان لديها جزء آخر من الحقيقة, وأنه لا مجال للادعاء باحتكار الحقيقة من جانب أي طرف ولا مجال أيضا للسعي لإقصاء الآخر أو تهميشه عبر التخوين أو التكفير, وعلي كل طرف الإقرار بشجاعة بأخطاء الماضي, فالساحة تتسع لاجتهادات الجميع والتحديات التي يواجهها الوطن تستوجب العمل, بعد تحقيق تلك المصالحة التاريخية, للانتقال إلي مرحلة بناء التوافق الوطني علي أساس الحد الأدني المشترك بين الجميع لوجه الله والوطن والشعب. المزيد من مقالات د.وليد محمود عبد الناصر