لن يكون انتخاب الرئيس القادم مجرد مكسب هائل لثورة 25 يناير, وإنما رافعة محورية لإعادة بناء مصر علي الصورة التي تستحقها وتستطيعها, في حال توافر شرطين. أولهما, انتخاب رئيس يتمتع بالقدرات والسلطات اللازمة لقيادة السلطة التنفيذية في مواجهة تحديات ومهام مرحلة الانتقال من الجمهورية الأولي التي تأسست بعد ثورة 23 يوليو الي الجمهورية الثانية التي يتوجب تأسيسها بعد ثورة 25 يناير. وثانيهما, انتخاب رئيس ينطلق من التفكير في المصالح العليا "للأمة المصرية"; باعتبارها عنوان الهوية والولاء والانتماء, ويعلي راية' دولة المواطنة; باعتبارها البوصلة المحددة لطبيعة الجمهورية الثانية. ولا شك أن نجاح الرئيس المنتخب في مواجهة تحديات وإنجاز مهام مرحلة الانتقال يوفر أهم قوة دفع لعملية الانتقال; من نظام فقد شرعيته الي نظام يتمتع بالشرعية, ومن حال الإخفاق التي فجرت الثورة الي حال التقدم الذي تستحقه الأمة. وتتوقف فعالية دور الرئيس المنتخب علي نجاح قوي الأمة في وضع دستور يؤسس لنظام حكم رئاسي ديمقراطي راسخ, يرتكز الي الفصل والتوازن بين السلطات, ويعزز سيادة القانون, ويحمي تداول السلطة. والأمر أن مصر منذ تأسيس الدولة الحديثة قبل نحو قرنين لم تكن بحاجة قدر حاجتها الآن الي سلطة تنفيذية مركزية قوية; يوفرها نظام رئاسي, ولكن ديمقراطي لا يعيد إنتاج الطغيان; الذي قاد الي ركود التمديد ومؤامرة التوريث. والحقيقة أن الديمقراطية ليست مرادفة للنظام البرلماني فقط; حيث تأسست أكمل الديموقراطيات في الولاياتالمتحدةالأمريكية في ظل نظام رئاسي, ولم ينتقص من ديمقراطية فرنسا تأسيسها للنظام المختلط, الذي يجمع بين النظامين الرئاسي والبرلماني. ولكن حتي يكون النظام الرئاسي ديمقراطيا, ينبغي أن يضمن الدستور ألا تهيمن فيه السلطة التنفيذية علي السلطتين التشريعية والقضائية, وأن تخضع فيه السلطة التنفيذية مع رئيس الجمهورية للرقابة والمساءلة والمحاسبة في إطار سيادة القانون. ولابد أن يرتكز هذا النظام الي دستور يحمي حق الأمة في ضمان التداول السلمي للسلطة باعادة الاختيار الحر للرئيس والبرلمان والمجالس الشعبية المحلية, وحق البرلمان في مراجعة وإعتماد موازنة الدولة والسياسات العامة. ومع حرمان الرئيس من سلطته الدستورية الراهنة في حل البرلمان, لا بد وأن تبقي له سلطة تشكيل الحكومة وبمعايير الكفاءة وليس الانتماء للأغلبية, علي أن يكون للبرلمان حق حجب الثقة عن الحكومة أو أي من أعضائها. وتقتضي مرحلة الانتقال إتخاذ قرارات وإجراءات جذرية تتطلب رئيسا يتمتع بسلطات قوية وإن تكن غير مطلقة ينبغي أن تضاف للإعلان الدستوري قبل انتخابه, ثم ينص عليها في الدستور الجديد. أقصد السلطات والقرارات والإجراءات التي تعيد بناء الثقة بين الشعب وأجهزة السلطة التنفيذية, وتسترد هيبة الدولة, وتنهي الإنفلات الأمني والأخلاقي وجرائم البلطجة والاحتجاجات الفوضوية, وتعيد هيكلة جهاز الشرطة ليصبح' في خدمة الشعب', وتعزز الاستقرار السياسي والاجتماعي, وتستجيب للمطالب الاجتماعية العادلة, وتقتلع جذور الفساد, وتنفذ العدالة الانتقالية الناجزة, وتعزز دولة القانون, مع الالتزام باحترام المباديء الدستورية وحقوق المواطن والإنسان. وبدءا من مراجعة واعتماد الموازنة العامة ينبغي اتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان كفاءة تخصيص الموارد ورشادة استخدام الأصول وعدالة توزيع الدخل, وتوجيه الاستثمار العام نحو المجالات ذات الأولوية القومية والجدوي الاقتصادية, وحفز الاستثمار الخاص وسعيه الي الربح المبرر والمشروع بشتي أدوات السياسة الاقتصادية بشرط أن ينهض بمسئولياته المجتمعية والوطنية. ولا بد من تعزيز شفافية سوق المال, واتخاذ الإجراءات الضرورية لضبط حركة رؤوس الأموال المضاربة الساخنة في البورصة, وضبط تدفقات رؤوس الأموال الي الخارج لإيقاف نزيف الاحتياطي النقدي, مع توفير بيئة صديقة للاستثمار العربي والأجنبي في إطار يراعي الأولويات الوطنية للتنمية الإنتاجية ولا ينتقص من السيادة الاقتصادية الوطنية. وينبغي أن ينطلق الرئيس المنتخب وحكومته من تشخيص علمي رصين للإخفاقات التي فجرت الثورة, ومن رؤية شاملة للمستقبل وخريطة طريق واضحة اليه. وأخص بالذكر بناء مرتكزات نظام اقتصادي اجتماعي جديد; يعزز الكفاءة والرشادة والعدالة, ووضع خطة للتنمية تجعل الأسبقية لتصنيع مصر في عصر المعرفة, وتعزز الأمن الاقتصادي القومي والإنساني, وتعظم الاستثمار في التعليم والتدريب والبحث العلمي والصحة والبيئة. أضف الي هذا, الاستجابة لتحديات الأمن القومي, بمراجعة معاهدة السلام مع اسرائيل تعزيزا لأمن سيناء وتنشيط دور مصر الفاعل في بناء السلام الشامل, وتفعيل نهج الكسب المتبادل مع دول حوض النيل لحماية وتنمية الموارد المائية لمصر ودول الحوض, وحماية السيادة والكرامة والمصلحة والريادة الوطنية في إدارة مصر للعلاقات الدولية الاقتصادية وغير الاقتصادية, وتعزيز فرص التكامل الاقتصادي العربي, والتعاون الاقتصادي مع دول الجوار لتعزيز الأمن الإقليمي. ولن يتم تعزيز المرتكزات الديمقراطية للنظام الرئاسي بغير أن يكون الرئيس المنتخب مدافعا' دون لبس' عن دولة المواطنة, مع مساندة قوية من القوي والأحزاب المدافعة عن دولة المواطنة, أي الدولة التي تستحق دون غيرها وصف' الديمقراطية'. وإذا انطلقنا من استيعاب أسباب ثورة 25 يناير المستمرة- وإن في صعود وهبوط عرفتهما جميع الثورات- أتصور أن معيار الاختيار بين المرشحين وأساس مساندة أو معارضة الرئيس المنتخب هو موقفه المؤيد دون لبس لدولة المواطنة. وأما فرص انتخاب مثل هذا الرئيس فانها تكمن في أن المصريين يعرفون أن لهم حقوقا; ثاروا من أجلها ولم تنقطع احتجاجاتهم العفوية والواعية لإنتزاعها. وإذا لم نصب بداء' البلاهة الليبرالية', علينا أن نتذكر أن النظام البرلماني لن يعدو تمكينا لأحزاب دينية; تعلن دون مواربة أن غايتها هي إقامة دولة الفقهاء والخلافة غير الديمقراطية, وتنزع الي إقصاء أو تهميش القوي والأحزاب الأخري, أو تري أن الديمقراطية كأس مرار فرضت عليها أن تتجرعها, أو' خطيئة' تتعاطاها بفتوي إباحة الضرورات للمحظورات, أو حتي كفرا لا أدري كيف يمارسه البعض بحماس!! وفي هذا السياق, ينبغي تبديد ما يروج من' أوهام' بشأن عودة المصريين الي' جنة' الخلافة الموعودة; التي يزعمون أن الأمة قد حرمت منها منذ تأسست الدولة الحديثة والقانون الوضعي والقضاء المدني في مصر!! ولا جدال أن انحطاط أحوال مصر والمصريين في عصر' الخلافة' لا يرجع الي الاسلام; وإنما الي خلفاء وسلاطين فاشلين وظالمين ادعوا زيفا وبهتانا أنهم يقيمون' شرع الله'!! ولنتذكر هنا أن مقاصد الشريعة الكبري وخاصة إعمار الأرض وإقامة العدل قد أغفلت معظم تاريخ مصر في ظل' الخلافة'; فكانت كارثة البراري التي' بورت' نحو نصف أراضي الدلتا, وكان ظلم الرعية حتي تآكل عدد المصريين الي نحو ربع عددهم, حين تحولت مصر الي ولاية تحت حكام أجانب; جاهلين بادارة مجتمع يعتمد علي الري الاصطناعي, ولا يهمهم من أمر مصر سوي نزف الخراج والجزية. وأخيرا, لنتذكر أن دولة المواطنة هي دولة جميع مواطنيها, التي ترتكز الي دستور يحمي دون تمييز أو انتقاص أو تهميش أو إقصاء حقوق مواطنيها السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية والدينية والثقافية. وهي دولة تكون فيها مصر للمصريين, يحكمها أبناؤها ويكون ولاؤهم لها رغم تمايزهم في العقيدة وغيرها. وللحديث بقية. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم