عند مدخل مدينة بن قردان من الشمال تقع ضاحية «جلال» ( بتعطيش الجيم ) حيث تمتد ثكنة الجيش التونسي، وقد احتفظ جدار الثكنة المترامية الأطراف والممتد سورها على يسار طريق القادمين من تونس العاصمة بآثار محدودة لطلقات رصاص.لكن ليس على السور الخارجى مما يفيد باستخدام قذائف ( الآر. بي. جي). وقرب نهاية الجدار وأمام الثكنة تتبدى أيضا آثار طلقات الرصاص أعلى مئذنة مسجد يحمل اسم »جلال« أيضا. وعندما تجتاز باب المسجد الخارجى وتعبر باحته المفتوحة على السماء الى داخله ستجد آثار اطلاق الرصاص واضحة على باب زجاجي. فى ساعة الظهيرة تلك التى زار فيها موفد «الأهرام» المسجد لم يكن هناك أى أحد بداخله. وحتى غرفة إمام المسجد مغلقة. وهكذا بدا فى هذا التوقيت وبعد هجوم فجر 7 مارس الجارى على الثكنة العسكرية المقابلة وفى تنسيق وتزامن مع هجومين آخرين على موقعين لقوات الأمن والشرطة بوسط المدينة وعلى بعد نحو خمسة كيلومترات. وهى الهجمات التى سارع الرئيس التونسى «الباجى قائد السبسي» فى مساء اليوم نفسه بوصفها بانها كانت محاولة لاقامة امارة داعشية فى المدينة الواقعة على بعد نحو 550 كيلو مترا من العاصمة تونس ولايتجاوز بعدها عن الحدود الليبية شرقا 32 كيلو مترا. وتجمع روايات سكان المدينة الذين التقيناهم بأن الهجمات الثلاث الكبرى التى شنها الإرهابيون على الثكنة والمقرين الأمنيين جرى توقيتها مع الانتهاء من آذان الفجر فى نحو الساعة الخامسة. حينها استيقظت المدينة على أصوات تبادل اطلاق النار بكثافة. وعلى بعد نحو مائتى متر من الثكنة العسكرية وفى الجهة المقابلة لها وداخل أراض نصف ترابية ونصف خضراء تتناثر أشجار .. وأيضا منازل من طابق واحد من دون تمهيد أى طرقات تصل اليها. وهنا بالضبط منزل »أحميد العيشي« حيث تتبدى أهم وأخطر آثار المعارك المصاحبة لهجمات السابع من مارس فى المدينة على الاطلاق. وقال صاحبه ( 63 سنة ) لنا : »كنت أصلى فى المسجد فسمعت أصوات اطلاق النيران فبقيت به. وجاءنا جنود الجيش واخرجونا واقتربنا بصحبتهم الى منازلنا. ووجدت عائلتى عند الجيران بعدما احتل الإرهابيون المنزل وتحصنوا به واخذوا فى اطلاق النار. طوقهم الجيش واستمر يشتبك معهم لمدة نحو ثلاث ساعات حتى تمكن من قتل ثلاثة منهم والقبض على اثنين آخرين. كان الإرهابيون خمسة داخل المنزل«. ويؤكد »العيشي« انه لم يلحظ أى حضور أو نشاط للمتطرفين أو الإرهابيين من قبل، لا فى المنطقة ولا فى مسجد »جلال«. وفى وسط المدينة لا يبعد كثيرا موقع الهجومين الإرهابيين الآخرين عن بعضهما سوى أمتار معدودة. الهجوم الأول استهدف مقر الحرس الوطنى (بمثابة شرطة الأقالي) ويقع فى ميدان يضم مرافق أخرى عدة لسلطة الدولة من المحكمة الى المعتمدية (إدارة المدينة والقرى والبلدات التابعة لها ) و بلدية المدينة ذاتها. أما الهجوم الآخر فقد استهدف مركز الشرطة على مقربة أيضا. وهنا وهناك حواجز تسبق المبنيين وآثار طلقات نيران محدودة على الجدران. لكن عامل فندق على مقربة يدعى »محمد علي« أبلغنا بأنه كان فى العمل عندما استمع الى اصوات مدوية لتبادل اطلاق النار فجرا. وقال: »سيطر الارهابيون على وسط المدينة لمدة نحو ثلاث ساعات وحتى الثامنة صباحا تقريبا قبل ان تصل تعزيزات عسكرية وأمنية«. وأضاف : »كانوا يجوبون وسط المدينة بسيارات دفع رباعية وعلى أقدامهم ويستوقفون المارة ويتحققون من هوياتهم ومن يكتشفون أنه من الجيش أو الشرطة أو الحرس الوطنى أو الديوانية (موظفو الجمارك) يقتلونه على الفور «. وأشار الى ان نقطة التحول فى معركة هزيمة الدواعش فى وسط المدينة جاءت عندما تمكن شرطى من افراد الحرس يرتدى زيا مدنيا وبسلاحه الشخصى حيث كان خارج أوقات عمله من قتل قائد عمليات الهجوم فى بن قردان. ويدعى (مفتاح منيطة) ويتردد هنا فى بن قردان أنه من ابناء حى الخروبة بالمدينة. ويؤكد شاهد عيان آخر ويدعى »عمار محمدي« وهو صاحب محل بقالة متواضع فى السوق القريبة من موقعى الهجوم أن الارهابيين سيطروا على وسط المدينة لنحو ثلاث ساعات. وقال : »رأيتهم فى ميدان المغرب العربى وأنا فى طريقى لفتح المحل وهم يشهرون الكلاشنكوف ويستوقفون سيارات المواطنين ويستولون على بعضها. لكنهم لم يدخلوا الى السوق هنا«. واضاف : »سمعنا لاحقا انهم اقاموا حاجزين أمنيين لهما عند مدخلى المدينة«. وعلى بعد نحو كيلو متر واحد من وسط المدينة ومركزه ميدان المغرب العربى ثمة مقهى فى حى «الأعباش» يعمل به شاهد احتجزه الارهابيون ويبلغ من العمر 40 عاما. وقال لنا بعدما طلب عدم ذكر اسمه أن خمسة مسلحين بالكلاشنكوف والآر. بي. جى أقاموا حاجزا عند مفترق الطرق أمام المقهى .. كانوا فى ملابس عادية ولايلبسون زيا أفغانيا أو غريبا بأى حال عن ملابس سكان المدينة. وأخذوا يستوقفون المارة والسيارات ويتحققون من الهويات«. وأضاف قائلا :» استوقفونى وأنا فى طريقى الى المقهى وتفحصوا هويتي. وتبينوا انه مكتوب بها اننى عامل فلاحي. وبعدها احتجزونى لمدة نصف ساعة«. وأضاف : »جاءت سيارة بها موظف جمارك فأستوقفوها وانزلوه. ولما تبينوا هويته اطلقوا عليه النار فورا وقتلوه«. وأكد : »ابلغونا بأنهم الدولة الإسلامية«. وقال :» تركونا فجأة بعدما جاءتهم سيارة (فان) بها سلاح حملتهم باتجاه معبر رأس جدير«. حى «الأعباش» الذى التقت به الأهرام ظل يشهد مداهمات لعدد من منازله تعقبا لارهابيين محتملين وردت معلومات عن عودتهم من القتال فى العراق وسوريا عبر ليبيا. وقد شهد « الأهرام» واحدا من هذه المداهمات قبل ساعة واحدة من سريان حظر التجول الأربعاء الماضي. لكن المداهمة التى استمرت لنحو ثلث الساعة انتهت بالتيقن من أن المنزل غير مأهول بالسكان. ووفق ما ابلغنا به «سمير ناجى « الناطق باسم نقابة قوات الأمن الداخلى بمعتمدية بن قردان فإن ماجرى فجر السابع من مارس الجارى فى المدينة كان بمثابة عملية حربية. وأوضح ان الارهابيين المهاجمين قسموا أنفسهم الى ثلاث مجموعات رئيسية. المجموعة الأكبر استهدفت الثكنة العسكرية فى مدخل بن قردان. والمجموعتان الأصغر استهدفتا المقرين الأمنيين فى وسط المدينة. وأكد وجود أسلحة متطورة مع الإرهابيين المهاجمين. وقال انهم استخدموا الآر بى جى والمدافع والرشاشات المضادة للطائرات عيار 14,5 ميليمتر فى مهاجمة المواقع الثلاثة. ولما سألته عن عدم وجود آثار لطلقات (الآر. بى جي) على المنشآت، أجابنى قائلا :»ضربوا طلقات فوق الأسوار «. وأضاف ان مخازن الاسلحة التى تم اكتشافها مدفونة فى الأرض بعد هذه الهجمات تكشف عن خطورة هذه العملية. وعلى خلاف الأنباء التى كانت قد نشرتها صحف العاصمة قبل ايام قال :»لم يجر اكتشاف رشاش مضاد للطائرات واحد وحسب. بل اكتشفنا كميات وفيرة من هذا السلاح الذى يظهر لأول مرة فى أياد خارج الشرعية بتونس«. وأضاف : »لدينا فى المدينة سبعة شهداء من المدنيين واربعة من جنود الجيش والأمنيين .حقا كانت حربا لكننا هزمناهم هزيمة تاريخية وبفضل تعاون الأهالي«.