أحدث الإعلان الكردي عن إقامة فيدرالية في شمال سوريا دويا هائلا، قد يقلب خريطة التحالفات، ويشعل حربا من نوع جديد، حتي أن الرئيس التركي أردوغان الذي كان يطالب بمنطقة آمنة خارج سيطرة الحكومة السورية في الشمال تغير موقفه إلي النقيض، ليعلن تمسكه بوحدة سوريا، قبل أن يتوعد الأكراد بحرب لا هوادة فيها. كما فاجأ الإعلان الحكومة السورية التي كانت تدعم قوات وحدات الحماية التركية، ووصفت الخطوة بالخطيرة، والتي لا يمكن التسامح فيها، لأنها تهدد وحدة سوريا وتغتصب قرارها. وما زاد من القلق أن إعلان أكراد سوريا جاء بعد وقت قصير من قرار مسعود برزاني رئيس إقليم كردستان العراق إجراء استفتاء حول الانفصال، وهو ما لم يغضب أردوغان الذي يعتبر برزاني خاضعا لتركيا أكثر من حكومة العراق، ويشاركه في محاربة حزب العمال الكردستاني، ويبدو أن هدف برزاني من التلويح بالانفصال هو كسب بعض الشعبية لتثبيت أقدامه كرئيس للإقليم بعد انتهاء مدته، ومواجهة حزب التغيير الكردي الذي يطالب بتنحيته ويصفه بالديكتاتور المستبد، في وقت تصاعدت فيه الاحتجاجات الشعبية ضد برزاني في ظل أزمة اقتصادية خانقة. كانت قوات الحماية الكردية الوحيدة التي تتمتع بدعم كل من أمريكاوروسيا قد رأت أن الوقت مناسب لإعلان «فيدرالية» تتمتع بدرجة كبيرة من الاستقلال عن سوريا الجريحة، فأردوغان مكبل بالغضب الروسي وعدم الرضا الأمريكي، ويصعب أن يتخطي الحدود السورية، حيث تتربص بطائراته صواريخ إس400 الروسية، بينما الجيش السوري مشغول بمحاربة الجماعات التكفيرية، ولهذا استغلت أنها الطرف الوحيد الذي استطاع أن يجمع بين دعم طائرات السوخوي الروسية إلي جانب طائرات إف 16 الأمريكية، لتحقق تقدما سريعا علي الأرض، وتبسط سيطرتها علي مساحة واسعة، بلغت نحو 40 ألف كيلويمتر مربع، حتي ضمت أراضي لا يشكل الأكراد أغلبيتها. كما رفضت المعارضة السورية التابعة للرياض الخطوة الكردية، والتي ووصفتها بأنها تصادر إرادة الشعب السوري، وهو موقف متسق مع حليفهم التركي أردوغان، الذي يكاد ينفجر من شدة الغضب، وأعلن أن مواجهة الإرهاب الكردي هو الهدف الأول، وقال إن الحرية والقانون لا معني لهما في ظل وجود الإرهاب. واشنطنوموسكو أبديتا رفضا لينا للخطوة الكردية في شمال سوريا، رغم أن كيري سبق ولوح بخطة التقسيم إذا فشلت عملية السلام، وهو ما تكرر علي لسان مسئولين بالخارجية الروسية علي استحياء، ولا يمكن تصور الخطوة الكردية دون ضوء أخضر من موسكووواشنطن، فماذا تريد روسياوأمريكا من وراء إعلان الأكراد الفيدرالية؟ رغم تقارب الموقفين الروسي والأمريكي من حيث الشكل، فلكل منهما مآرب مختلفة، فأمريكا تبتعد أكثر فأكثر عن أردوغان، الذي وصفته بالمستبد، وباتت لا تعول علي دوره الذي كاد يتلاشي في سوريا، بينما زاد رهانها علي أكراد سوريا، ليكون لها موطئ قدم، يمكنها من ممارسة الضغوط في المفاوضات المقبلة، وهي من أسهم في تشكيل جبهة «سوريا الديمقراطية» التي يشكل الأكراد نواتها الرئيسية، وحاولت ضم الأقليات الأخري وبعض وجهاء العشائر، وزادت من وجودها العسكري المباشر في الأراضي الواقعة تحت السيطرة الكردية بعدة مئات من القوات الخاصة والمدربين، وشرعت في تأهيل مطار داخلها. أما بوتين فهو مبتهج من حالة أردوغان المزرية، الذي أصبح عاجزا عن حماية ظهره، بعد أن كان يسعي للتتويج كإمبراطور عثماني جديد، لكن بوتين يدرك أن الخطوة سوف تثير مخاوف الحكومة السورية من فيدرالية تؤدي غالبا إلي التقسيم، وهو ما يتعارض مع ما سبق أن أعلنته روسيا بالحفاظ علي وحدة سوريا، ولهذا فالأمر المرجح أن يكون إعلان الفيدرالية الكردية ورقة ضغط لتغيير مواقف تركيا والسعودية والمعارضة السورية من رفض تمثيل الأكراد في مفاوضات السلام، وتوسيع تمثيل باقي أطياف المعارضة، وفي مقدمتهم حزب الاتحاد الكردستاني، الذي تعتبره تركيا امتدادا لحزب العمال الذي يحمل السلاح ضدها، كما أن إجماع سورياوتركيا والسعودية علي رفض الفيدرالية قد يؤدي إلي تخفيف الاحتقان بين هؤلاء الفرقاء، ويسهم في مزيد من التقارب خلال المفاوضات، وأن يتحول مطلب الدولة الفيدرالية إلي صيغة مخففة وهي دولة لا مركزية، بدلا عن الدولة شديدة المركزية، وهي الصيغة التي يمكن أن يقبل بها كل الأطراف. ما يعزز هذا الاحتمال أن هيثم مناع ممثل تحالف «سوريا الديمقراطية» الذي يضم الأكراد، يتبني مشروع الدولة اللا مركزية، ويرفض الفيدرالية. هكذا تبدو الخطوة الكردية قفزا في الفراغ، ربما تحقق بعض آمال الأكراد الذين طالما حلموا بدولة مستقلة، لكنها خطوة خطرة قد تزيد من حدة الأزمات، وتؤدي إلي انفجار، تتطاير شظاياه في كل اتجاه، ويضيع ما حققه الأكراد من مكاسب فى أثناء الحروب التي عصفت بالمنطقة، إذا تجمعت الدول التي يتوزع فيها الأكراد ضدهم، فخروج الأكراد من تحت مظلة الدولة السورية سوف يجعلهم لقمة سائغة في فم تركيا، ولن يكون الوضع في العراق أفضل حالا، خاصة أن البرزاني جعل كردستان العراق مرتعا لإسرائيل، وهو ما يثير غضب كل من حكومتي العراق وإيران، وقد لا يمر وقت طويل حتي تنقلب عليه تركيا ليكتمل حصاره، ويتفرق دمه بين الجميع، ويتبدد الحلم الكردي. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد