جاء اجتماع لجنة الشئون العربية في مجلس الشعب برئاسة الدكتور محمد السعيد إدريس, لمناقشة أبعاد الصراع الدائر بين شمال وجنوب السودان علي مناطق إنتاج البترول في منطقة التلاقي الحدودي بين البلدين. بحضور القائم بالأعمال السودانية بالقاهرة حسين الأمين, كاشفا عن بعد خطير في هذا الصراع الذي يعتبر في جوهره الحقيقي صراعا بين القوة الأولي في العالم, وهي الولاياتالمتحدةالأمريكية, ومعها بريطانيا بما لديها من ملفات حول طبيعة البيئة المادية والبشرية بالمنطقة, وتساندهما إسرائيل, في مواجهة المنافس الصاعد علي الموارد الطبيعية في إفريقيا وهي الصين. لقد كشفت المناقشات البرلمانية في لجنة الشئون العربية عن أن جذور هذا الصراع بدأت منذ عام1981 حينما اكتشفت شركة شيفرون الأمريكية أكبر بحيرتين للبترول في إفريقيا, الأولي في منطقة الحدود المشتركة بين السودان وتشاد( غرب السودان), والثانية في منطقتي أبيي وهيجليج في المفصل الحدودي بين شمال وجنوب السودان, وانسحبت الشركة الأمريكية بعد هذا الاكتشاف البترولي الاستراتيجي بناء علي تعليمات من حكومة بلادها, حيث اعتبرته الولاياتالمتحدةالأمريكية احتياطيا استراتيجيا للمستقبل. لكن حكومة السودان بقيادة البشير أرادت الاستفادة من هذه الثروة في إنقاذ البلاد من تدهورها الاقتصادي الذي وصل إلي الحضيض, فلجأت في أوائل التسعينيات إلي الصين وماليزيا, لتشغيل مشروع الاستخراج البترولي من أبيي وهيجليج, ووجدتها الصين فرصة ذهبية فألقت بثقلها في السودان, ونجحت نجاحا كبيرا في تحويل السودان إلي دولة نفطية, وقد تحقق للسودان الحلم في إنقاذ البلاد اقتصاديا, وتجاوزات البلاد عثرتها في تعويض الاستنزاف الذي تعرضت له السودان في حربها الطويلة مع الجنوب لأكثر من عشرين عاما, وتوجت خروجها من بؤرة الحرب باتفاقية استقلال الجنوب, لكن خبثاء الطرف المناوئ للوجود الصيني في إفريقيا تركوا مناطق البترول في السودان بدون تسوية, ولتكون منطقة نزاع في المستقبل تجد فيه القوة الأمريكية ومن معها فرصتها للتدخل وطرد المنافس الصيني الذي اتخذ من السودان نقطة انطلاق في بقية القارة الإفريقية للاستفادة من مواردها الهائلة طبيعيا وبشريا, وسوق استهلاك واعدة للمنتجات الصينية. ومن هنا جاء وقوف الصين بقوة بجانب السودان الشمالي في مواجهة السودان الجنوبي المدعم من القوة الأمريكية والبريطانية وإسرائيل التي تشترك معهما في تشجيع قوات السودان الجنوبي علي احتلال حقول البترول في هيجليج التي تمد السودان الشمالي بنحو75% من موارد الخزانة العامة, والباقي من حقول أبيي, لذلك جن جنون السودان لشمالي وصمم علي تحرير حقول بترول هيجليج, ودعمت الصين حكومة البشير بكل قوة حتي تم ما أراده, وإن كان هذا لا يعني نهاية الصراع, فالأمر لا يعدو إلا أن يكون عمليات كر وفر بين طرفي الصراع الأصلي: الولاياتالمتحدة وبريطانيا وإسرائيل في جانب, والصين زعيمة جناح جنوب شرق آسيا في الجانب الآخر. إن هذا الذي يجري من نزاع علي البترول بين شمال وجنوب السودان لا يعدو إلا أن يكون بروفة لاختبار القوي بين لاعبين رئيسيين يتسابقان علي مناطق نفوذ جديدة لهما بإفريقيا من أجل الفوز بما لديه من كنوز وذخائر طبيعية تعتبر احتياطيا استراتيجيا لها, وفي مقدمتها البترول الذي يمكن أن يكون بديلا عن بترول الشرق الأوسط إذا حدث ما لا تحمد عقباه في ضمان إمدادات هذا النفط لأسواق استهلاكه الكبيرة في الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا ومعهما إسرائيل الدائرة في فلك هاتين القوتين منذ إنشائها عام1948 وحتي الآن. لقد كشفت المناقشات البرلمانية لهذه القضية أن هذا الصراع الدولي علي أرض السودان إنما يشكل خطرا علي الأمن القومي المصري, وبخاصة أمنها المائي الذي سيتأثر حتما بتزايد النزاع بين شمال وجنوب السودان, الأمر الذي يلقي علي مصر بمسئولية تحقيق التوازن في علاقاتها بين دولتي السودان, مع استمرار جهودها الدبلوماسية في رأب الصدع, وحل أي نزاع بين الجارتين بالسياسة وليس بالحرب, وتوجيه أنظار القيادة في البلدين إلي خطورة ما يدبر لهما في الخفاء من قوي خارجية لا تريد لهما خيرا, بقدر ما تحرص هذه القوي علي تحقيق مصالحها في السيطرة علي الموارد الطبيعية وفي مقدمتها مناطق البترول الواعدة, والثروات المعدنية الهائلة في القارة الإفريقية, وهي تتخذ من إشعال الصراع بين الأشقاء الأفارقة وسيلة للنفاذ إلي السيطرة واستغلال الموارد لمصالحها, ولو كان ذلك علي أشلاء جثث الأفارقة تطبيقا لمبدأ الأرض المحروقة بشريا, فهل يعي القادة الأفارقة هذا الخطر المحيط وألا يجعلوا من بلادهم ساحة للصراع بين قوي دولية عظمي تسعي لابتلاع ثروات الآخرين بلا رحمة أو إنسانية؟ والإجابة عن السؤال تنتظرها لجنة الشئون العربية في مجلس الشعب من الاخوة المتصارعين بلا هوادة علي أرض السودان شمالا وجنوبا, وربما لا يدرون أنهم الوقود لآلة الحرب الطاحنة بين الساعين لبسط السيطرة والنفوذ علي إفريقيا ومواردها الطبيعية الهائلة.. فهل من مدكر؟!