عندما اكتمل قمر غابتنا الوقور, فصار بدر البدور, وأغرق دروبها الحلوة في النور, دعا ملك الغابة الهصور, إلي اجتماع للكواسر والجوارح والنسور, وحضره طبعا كل أبناء النخبة, ذوي المنعة والسطوة والغلبة, ولم ينس المليك المغوار, استدعاء أصدقائه الشطار; الغزال والفيل والقرد والحمار. وبعد تقديم البريء من المشروبات, وما تيسر من خفيف المأكولات, كالكافيار والسيمون فيميه والمشويات, نهض الأسد الجليل في كسل, وبين كفيه كأس من عسل, ومشي بيننا علي مهل, حتي صار في منتصف القاعة, فتحدث في ضراعة, وتعامل معنا بمنتهي الاحترام, فشعرنا آنئذ بما يحمله من آلام, وبأن مزاجه ليس علي ما يرام, وحالته اليوم موش تمام, فسأله الفيل بعد أن اعتذر: مالك يا سيد الحيوان والبشر؟ هيا هيا يا سيد الناس, فضفض معنا يا صاحب القد المياس, دونما حذر أو لبس أو التباس. .. فابتسم المليك رغما عنه, وثبت علي الفيل عينيه, ثم همس بصوت مكتوم: يا أحبابي.. أنا اليوم مهموم, وتمضي بي الليالي والأيام, فلا أنام, وحالي يصعب علي اللئام, ولم تفلح معي لا صلاة ولا صيام, ولن أكتم عنكم السر, فأنا يجتاحني هاجس مستمر, بأن قلبي فوقه حجر.. فكأنني أحتضر, فهل لديكم يا رجال, تفسير لهاتيك الحال؟ وهل ثمة من علاج, لتلك الدوخة وذاك الارتجاج؟ هنالك سعل الفيل ثم تجشأ, وقال دون روية أو تلكؤ: إن مشكلتك يا مولانا, أنك تنام ومعدتك ملآنة, بينما أغلب الحيوانات, لا تجد الفتات, وتبيت ليلها علي وشك الممات, وذلك من ندرة القوت, وطبعا من يعش لنفسه فقط يموت. ولأن أسنانك المخيفة, صارت مع الأيام ضعيفة, فإن الهضم عندك لا يكتمل, وأصيبت أمعاؤك بالكسل. آنئذ نظر إليه المليك في غضب, وانتفض فيه كل عرق وعصب, فبان عليه التعب, لكنه لم يشأ أن يدخل مع الفيل في نقار, أو يقلب القعدة إلي خناق أوشجار.. وبكل عنف كز علي أسنانه, وغرسها في لسانه, ثم التفت إلي القرد النحيف, ذي العقل الخفيف, وقال: فما رأيك أنت يا أبا العوريف, هيا أفتنا يا مدمن الكيف, لكن إياك يا صاحب الأفكار النيرة, أن تسرف في التهريج والمسخرة. فقفز القرد قفزته الشهيرة, وتربع علي الشجرة الكبيرة, وصرخ: ألا فلتسمعوني يا صعاليك.. يا ذوات العقل السميك, فضحكنا كلنا بمن فينا المليك, وقال الملك: هيا يا ابن الهلافيت, إدل بدلوك يا عفريت. عندئذ قال القرد باستهزاء: يا مولاي..عليك بالنساء, إن لديك الآن من الزوجات أربعا, فلماذا لا تجعلهن ستا أو سبعا؟ هيا هيا يا ملك الغاب, فليس مثلهن من يعيد إليك الشباب. وكفاك يا عمنا, التهاما في لحمنا, الله يخليك ابعد عننا, واشغل نفسك بحب البنات, فلم يعد بالعمر قدر ما فات.. واعلم يا واسع القدرة, أنك لن تعيش إلا مرة, بس مرة, فاملأ حياتك بالعشق والسهر, وارقص معهن تحت ضوء القمر. وتلك هي نصيحتي إليك, هيا انطلق فلا رقيب عليك! عندها لم يتمالك الليث نفسه من الغضب, وقبض علي القرد وهات يا ضرب, وصرخ بكل عزمه, ماذا تقول يا ابن الجزمة؟ وهل تراني زير نساء؟ ألا فلتلعنك السماء, أنا أقول لك لا أستطيع النوم, وأنت تريد أن يضحك علي القوم. اغرب عن وجهي يالئيم, يا ذا العقل الأثيم, فمثلك لا تطلب نصائحه, يا من طبقت الآفاق فضائحه.. وهكذا امتلأ الأسد بالإحباط, فقلب عينيه في زخارف البلاط, ثم خبط رأسه بكفيه, وتلألأ الدمع في مقلتيه, ومر بيديه, فوق شاربيه, واندلقت الكلمات من شدقيه, لاهبة كما النار, فأوشك أن يفقد الوقار. وفي تلك اللحظة لمح الحمار, الذي كان جالسا في صمت, وينظر للمليك من تحت لتحت, فهز الأسد الذكي رأسه في مكر, وتقدم نحوه في حذر, كأنه مخالب القدر, فشعر الحمار بالخطر, وسمع دقات قلبه الجن والبشر, والماشية والبقر. .. وقال المليك: شرفتنا يا عم, فرد الحمار: وقاك الله يا مولاي شر الهم, فقال المليك: انت موش معانا ولا إيه؟ فرد الحمار: خدامك يا سعادة البيه, فقال الملك: طيب.. فما رأي حضرتك, في الأرق الذي أصاب ولي نعمتك؟ فقال الحمار: هل تعطيني الأمان, فإن تكلمت لا أهان, وأن لا تلتهمني التهاما يا عظيم الشان؟ فقال المليك: اشهدوا علي يا قوم, ووالله لا يمس الحمار مني عقاب ولا لوم, هيا هيا أتحفني يا ملهم! تحمحم الحمار ثم نطق, فقال: اسمع يا زعيم, هل تريد النوم؟ عاوزني أجيب لك من الآخر, إن سعادة جلالتكم من سعادة الآخر, فإن أحببت أن تعود إلي سكينتك, فانشر العدل بين رعيتك, وتلك يا مولاي نصيحتي إليك, ففكر فيما أعرضه عليك, عندئذ أطرق الأسد إلي الأرض, وهمس للحمار في ود: كلامك معقول والله يا وغد.. دعني قليلا أدرس هذا العرض!