مضت بنا الأيام, وعشنا حقبة نادرة في التئام, وهدوء ووئام, واستقرار وسلام, حيث أخرج الثعلب المكار, صديقنا الحمار, من دماغه الجبار, فبتنا نروح كل ليلة إليه, وبعد أن نسلم عليه, كنا حوله نتحلق, فنستمع إلي حديثه الشيق, ونتفاكه ونتتريق, علي ما يجري عندنا من أحداث, ونضحك حتي اللهاث, فإذا انتصف الليل, تسحبنا علي مهل, وتلفتنا حولنا في حذر, تحت ضوء القمر, كي لا يرانا الغفر, المنتشرون كالجراد, لاصطياد العباد, وتقييدهم في الأصفاد. وذات ليل بهيم, بحثنا عن صديقنا الكريم, فوجدناه في حقول البرسيم, متخبطا يهيم, مشتت الفكر شريدا كالسقيم. سألناه: مالك يا أخانا؟ هيا فضفض يامولانا, وهل لك في الدنيا من أحد سوانا؟ نظر إلي السماء طويلا ثم أغلق عينيه, وتساقطت دموعه فوق صدغيه, ثم بسمل وحوقل, وبكي حتي أثقل. فتعوذنا بالله من كل شيطان رجيم, وتصورنا أن الثعلب اللئيم, قد جرح مشاعر حمارنا العظيم. لكن الحمار همس: ثعلبكم يا إخوتي, لا علاقة له بمصيبتي, ولا دخل له أبدا بخيبتي. وبعد أن استغرقته الأفكار, ودار بيننا كالتائه المحتار, ألحينا عليه بالسؤال, حتي استسلم أخيرا وقال: اسمعوا يا أشقاء الروح, ويا أحباب قلبي المجروح, أنا قد تحامقت فتجرأت, ودون تدبير نزلت, إلي بحر الهوي فغرقت, وأخذني التيار فهلكت. يا أشقائي..أنا عشقت! آنئذ ضحكنا حتي كدنا نموت, علي هذا العكروت, السابح في الملكوت, وسألناه مازحين: ومين دي يا حزين, اللي عرفت تكعبلك مين, هيا اعترف يا مسكين. هيا وسنفتيك فنخلص لك الفتوي, واعلم أن صمتك لا جدوي منه أي جدوي. وهنالك قفز الفيل المجنون, مدمن الحشيش والأفيون, فضم إليه الحمار ضمة, كادت تفقده العزم والهمة. ثم صرخ صرخته الجبارة: هيا اعطني يا حبيبي الإشارة, وأنا آتيك بها في شيكارة. فأزاحه الحمار عنه برفق, وهمس له بمنتهي الصدق: لن تستطيع.. فحمارتي الحبيبة ليست من هذا القطيع. إنها ياصديقي من الوادي البعيد, الذي يأكل أهله النار, والحلو عندهم الحديد! هنالك ركبنا الهم, وملأ أرواحنا الكرب والغم. واتفقنا علي أن نلتقي من جديد, لمناقشة مأساة عاشقنا العنيد. فلما أن تباحثنا, وللآراء كلها تبادلنا, انتهي بنا الأمر, إلي أن الخروج من هذا العسر, يقتضي استدعاء القرد الميمون, العابث المأفون, ملك الشخلعة والمجون, وبعشق الإناث معجون, و لشجون القلوب فهيم, وبالإيقاع بذوات الحجال عليم. وجمعنا شيوخ القبيلة, وإلي وكر القرد توجهنا هيلا بيلا,, فوجدناه مخمورا يتخبط, ووجهه بالطين تلغمط, فلما أن رآنا أراد الهروب, فعكشناه بالمقلوب. فلما أن سمع منا القرد الحكاية, وفهم أصل الرواية, استلقي علي قفاه من الضحك, واصطك في فمه الفك بالفك, وابتسم في تخابث, وراح للحمار يشاكس, ثم رسم علي جبهته88, وقال اتركوني أفكر قليلا يا حلوين.. ثم نظر إلي الحمار, الذي عربد في وجهه الصفار, من شدة الانتظار, واقترب منه القرد ثم اقترب, فاحتضنه احتضان المحب, وهمس له بصوت متصاعد, متعمدا أن نسمعه جميعا, واحدا واحد. وقال بصوته الغليظ, اسمع يا حماري العزيز: إن الأنثي كائن لذيذ, وحيث إنها في منتهي الرقة, فهي لا تنتظر من العاشق أي رحمة ولا شفقة. فإياك إياك أن تترك لها الزمام, فساعتها ستركبك وتشد اللجام, لذلك كن حازما.. لكن في ذكاء, وإن أبليت في الغرام.. فأحسن البلاء! نظرنا جميعا إلي القرد في تأفف, وصرخنا في نفس واحد: يا عم خلصنا ولا تتفلسف, هيا قل لنا دون لف أو دوران, ما الذي علينا أن نفعله الآن؟ فقفز كالبقف, ثم هتف بمنتهي السخف: لا حل يا إخوتي إلا الخطف.. فهيا شكلوا منكم عصابة, تجتاح الغابة, وهاتوا لحماركم أنثاه الغالية المهابة. صرخنا فيه: هل جننت يا أذكي إخوته, أتحسبها بعد الخطف تقبل عشرته, أو تشتهي محبته؟ فزعق فينا كأنه أسد, دون أخذ منا ولا رد: إخرسوا يا رعاع, فالأنثي لا تعشق إلا الفتي الشجاع, وإلا فقد ضاع حماركم ضاع. فمكثنا مضطربين.. وعندئذ تساءل الحمار الحزين: ولماذا يا مساكين.. لا نكون لمرة واحدة.. متهورين ومجانين؟ غدا سأتهور فأقود القطيع, فلن أترك حبي- من بين يدي- يضيع!.