انقطع المطر، فأضحى جو الغابة مشحونا بالخطر، وبخلت الطبيعة بالعطاء، وكشرت عن أنيابها السماء، وكادت البحيرة الكبيرة أن تجف، فتفشى الجوع، وعربد الخوف، واختفى العشب الأخضر والنبات، ولم يعد ثمة لبن فى ضروع الأمهات، فنفق الصغار، ومات من مات من الكبار. هنالك تعالى الصياح والصخب، وعشعش فى النفوس الغضب. وكنا آنئذ فى الربيع، فتداعى الجميع، واحتشدوا فى الميدان الوسيع، أمام القصر المنيع، وطلبنا لقاء الملك الفظيع. فلما أن خرج إلينا الملك الأسد، أذهلته ضخامة العدد، فارتعشت فرائصه وارتعد. لكن- ولأن الليوث ينبغى ألّا تخاف- فقد نظر إلينا الملك فى استخفاف، وجاهد لإخفاء رعبه والارتجاف، وفى لحظات جمّد قلبه، كى يبدو متماسكا أمام شعبه. وبسبب الضجيج والصياح والجلبة، سيطرت على الضبع اللئيم الرهبة، وراح ينبح ابن الكلبة: إخرسوا يا رعاع، وكفوا عن الغلبة أيها الجياع، فإن مولانا العظيم، بكل تفاصيل الأزمة عليم، ولدى جلالته دائما الحلول، لكل حادث جلل مهول، فالزموا الصمت يا ولاد الكلب، فالزعيم سيتحدث الآن للشعب. تنحنح الزعيم، ثم صرخ فى صوت كالهزيم: ألا تعرف منّك له يا هلفوت، أننا جميعا سوف نموت، وأن الموت على الحيوانات كتاب موقوت؟ ألا تدركون يا أحفاد العبيد، أن من مات جائعا فهو شهيد.. فلماذا إذن الاحتجاجات والهلع، مع أن الشبع، خلاصة الجشع، وعادة مذمومة، وبدعة من البدع؟ عندئذ هاج الحمار وثار، ورفس الهواء بخلفيتيه فأثار الغبار، وزعق بصوته المنكور: يا مليكنا الوقور، يا صاحب الفيلات والأطيان والقصور، إن لى أياما لم أقرب الزاد، رغم أنى طفت جائعا كل البلاد، فلم أجد إلا الجدب والخراب والفساد، وهذا- يا صاحب العقل والرشاد- لا يمكن أبدا أن يرضى رب العباد. حينئذ نظر الزعيم إلى القرد ميمون، أمير الدهاء سلطان المجون، وخاطبه بصوت خفيف، ما رأيك يا قردى اللطيف؟ ابتسم القرد اللئيم المحنك، وتقدم فقبّل الأرض بين يدىّ الملك، ومال على أذنيه وهمس بكلمات، لن ينساها الزعيم حتى الممات. نظر الميمون إلى المتظاهرين بعيون لئيمة، وقال بلغة تعمدها فخيمة: إن النهاية الأليمة، لأى امبراطورية عظيمة، تبدأ يا مولانا المليك، عندما يتمرد الصعاليك، وما دمت أنت قد طلبت رأيى المتواضع، فإننى أرى- وبكل تواضع- أن الملك الذى لا يرتكب الفظائع، فهو لا محالة هالك وضائع. .. ثم بلع القرد الرعديد، لعابه وتحدث من جديد: إن التاريخ يا مولانا السعيد، علّمنا أن دوام أى ملك تليد، ثمنه الدماء؛ دماء العبيد، فإن أنت سفكت منهم بعض الدماء الفوّارة، فقد أسكتّ فيهم الفوضى والإثارة، وأحبطت الفجاجة والشغب، وأطفأت نيران الغضب، ولا شك أنك تعرف أكثر منّى، أن دواء الغوغاء، الإغراق فى التمنى، فأغرق رعيتك يا سلطان الوجود، فى الكلام المعسول والوعود، وساعتها سوف تنمو فيهم شعلة الأمل، وسيهرولون كالنعاج إلى العمل، ولا مانع من بعض الحديث عن الديمقراطية، كى تأكل بعقولهم المهلبية، وساعتها سيعيشون فى الوهم الكبير، مع أنهم حمير وأبناء حمير. أنصت الغضنفر لكلام الميمون، الذى هو بماء الخبث معجون، ثم عندما أنهى القرد كلامه، لم تبد على وجه الزعيم أى علامة، على أنه بهذا الكلام اقتنع، أو أنه سوف- بكلمات الميمون- سينتفع. هزّ الأسد الجبار، رأسه فى احتقار، ونظر إلى القرد اللئيم، وصرخ فيه بصوت عظيم: لا ياقردى الهمام، كلامك محض ترهات وأوهام، فاسمعنى يا شاطر باهتمام، فأنا الذى سأشرح لك أصل الحكاية، من البداية للنهاية، وسأدخلك فورا فى صلب الرواية. إن الشعوب التى لا تخاف القائد الملهم، لا خير فيها ولا مغنم، ألا فلتعلم؛ أن قطع الرءوس، هو أقصر الطرق، لإسكات غضب النفوس. وعندئذ نظر الزعيم إلى الحمار فى غضب، لكنه- رغما عنه- لابتسامة صفراء اغتصب، وأشار بكفيه للحمار، أن اقترب منّى، وكف عن النقار، فأدار الحمار عينيه فى الجمع الغفير، وهمس مرعوبا لأشقائه الحمير: أفتونى.. هل أهرب بسرعة، أم أطيع الكبير؟ أجابوا جميعا بغير حماس: وهل إذا هربت يا أعبط الناس، سيتركك الحراس؟ هيا يا جزمة يا ابن الجزمة، فقد ورطتنا معك فى الأزمة. وما هى إلا رمشة من الجفون، حتى كانت رقبة الحمار بين فكى الأسد المجنون.. ضغط عليها ثم ضغط، فشهق الحمار ثم زرط، وإن هى إلا دقيقة واحدة، حتى رفس الحمار بأقدامه ثم نفق. فلمّا أن دقت قلوب الحيوانات بعنف، وسال فوق المؤخرات بول الخوف، ورأوا الدم يتساقط من فم الزعيم المفتون، سمعوه يزعق فى جنون، زعقة روّعت الكون: هذا يا أحبائى جزاء المتمردين، وعقاب الرافضين، ألا فلتعلموا يا ملاعين، أن الجوع قدر مقدور عليكم، مهما مغصت بطونكم وتألمتم، واعلموا أننا خلقنا طبقة فوقها طبقة، وأنا- تحديدا- السيد الأوحد فوق كل طبقة!