ترعرعنا في غابتنا الكبيرة, ذات المياه الوفيرة, ونحن والماء, أشقاء وأصدقاء. وكنا إذا شح الطعام, فلم نجد الكلأ بانتظام, نجري بسرعة, إلي أي جدول أو ترعة, فنعب من الماء حتي نرتوي, وننسي أي جوع ولو قوي. وكانت غابتنا منذ الأزل معروفة, بأن الماء فيها بالزوفة. ولهذا فقد عرف الجميع, أن الماء عندنا ليس للبيع.. فنحن بالماء نحيا, ومن دون الماء نضيع. .. ثم حدث أن هاجمتنا غابة مجاورة, بعد استخدام الدهاء والمناورة, فهزمتنا شر هزيمة, وتجرعنا المهانة الأليمة. وآنئذ عاملتنا الجماعة, بمنتهي الفظاعة, وتسللوا ذات مساء, فاحتلوا عين الماء, فعطش الأطفال والنساء, وانتشر البلاء, فلم يعد يسمع عندنا, إلا النحيب والبكاء. فلما أن كدنا من الظمأ نموت, ذهبنا إليهم نلتمس القوت, فضربونا بالنبوت, وقذفوا وجوهنا بالمراكيب, وركبونا العيب. وهنالك دعا أسدنا الجبار, ملك الغابة المغوار, صاحب الثمار والأشجار, والعبيد والأنفار, والقصور ذات الأنهار, إلي اجتماع شامل, لبحث هذا الخطب العاجل, وجلسنا جميعا حوله في الجرن, يكاد يقتلنا الحزن, فلما أن أسرفنا في النواح, وساد بيننا الصخب والصياح, نهض من كرسيه المريح, مهموما كالذبيح, وهمس بصوته الجريح: اسمعوا يا أشقائي الطيبين, ويا حيواناتي المساكين, ها أنتم ترون ما جري لنا, وما فعله الأوغاد بنا.. فانظروا ماذا أنتم فاعلون, وها أنا ذا أستشيركم فأفتون. عندئذ فز الفيل المجنون, وصرخ في وجه الملك المحزون: أنت يا مولانا المسئول, ومهما تفعل أو تقول, فإن كلامك المعسول, وتسويفك والخمول, ثبطت منا الهمم, حتي تجرأت علينا الأمم, وسرق حياضنا الحثالة والرمم.. وها نحن قد أصابنا الوهن, وندفع كل يوم الثمن.. فلا تطلب منا الآن أن نحمل وزر ترددك, أو نشاركك في اقتسام مصيبتك.. هيا هيا فلتتصرف أنت وحدك.. وأيا ما كان في قرارك.. فنحن سوف نشارك. نظر إليه المليك في حسرة, بعينه المنكسرة, وهز رأسه في يأس, ثم قال في همس: لا بأس يا فيلي العزيز لا بأس, أنا معك في كل ما قلت, وأقرك علي ما به تفوهت, لكن المشكلة الآن يا صاحب الخرطوم,, أننا كلنا في قارب مخروم, فإما أن نغرق معا, أو معا سوف نعوم.. لا فرق فينا بين كافر وعابد, فلا فائدة في أن نكابر أو نعاند. فأرجوكم تعالوا ننسي مؤقتا خلافاتنا, ونبحث عن خلاص لنا كلنا. ثم أطلق نظرة كلها ظنون, إلي القرد ميمون, ورمي إليه حبل الكلام, وقال: هيا يا همام, يا صاحب العقل التمام, أفتنا في الأمر, وانصحنا يا ممدود العمر! عندئذ نظر إليه القرد في تخابث, وقال بصوته الهازيء العابث: الحل عندي يا صاحب الصولجان.. ليس حلا واحدا بل هما حلان. إن البركة كما تعلم- ليست في الرجال, بل في النسوان, والحرب- كما تعرف يا صاحب الخلعة- هي دائما خدعة, واللجوء أحيانا لمكر الإناث ليس بدعة, فالمعروف عنهن أن كيدهن عظيم, وعقابهن- حين يعاقبن- مؤلم أليم. ولما كان الأغراب قد هددونا في الماء, وهو أعز مانملك, فلنهاجمهم نحن أيضا بالنساء, وهن ألذ ما نملك. وإذا كانوا يتوعدوننا بالفناء, فلا مانع أبدا من استخدام الإغراء. الرأي عندي يا واسع الحيل, أن تتسلل إناثنا إليهم في الليل, مرتديات أجمل ما علي الحبل, وبأيديهن غطيان الحلل, فيباغتن ذكورهم في الأوكار, ويقطعن أجسادهم دون تأخير أو انتظار. وهذا يا مولاي أول الحلين, فأما الثاني, فهو أن نظهر لهم اللين, ونذهب إليهم ضارعين, ومدعين, أننا أتينا مستسلمين, فنقبل الأرض بين يدي مليكهم, ونقدم أكفاننا لهم. وفي تلك اللحظة- وهم في قمة الانتشاء- يتسلل بعضنا فيسمم عين الماء, فلا يطلع عليهم صبح إلا وهم هباء في هباء! نظر إليه المليك في غضب, وصرخ بصوت كاللهب: امش من قدامي يا ابن الكلب.. فكيف نسمم ماء نحن مالكوه, هيا اغرب عن وجهي يا معتوه ياابن المعتوه.. ووالله يا خلبوص, إن لم تخرس لأقلعك بلبوص! ثم صاح الملك الجبار, صيحة كالنار, في حارسه المغوار: آتوني فورا بصديقي الحمار. فقال الفيل علي عجل: الحمار الآن في شهر العسل.. ويعيش الآن أحلي أيامه, مع فتاة أحلامه. غير أن الأسد العنيد أصر.. فانطلق الحرس إلي الحمار كلمح البصر. فلما أن أحضرته الجحافل, مقيدا بالسلاسل, وقف الحمار يرتعش, كأنه من قبل لم يعش, وتعجبنا غاية العجب, حين فاجأنا الملك الذي هده التعب, فأخذ الحمار من يديه, وحنا عليه, وقبله بين عينيه, ثم ابتسم له في تشجيع, وهمس بصوت ضريع: ما رأيك أنت يا حكيم القطيع, ويا صاحب العقل البديع؟ فقال الحمار بلا تردد, ودون نفاق أو تودد: اسمع ياملك البلاد, ويا سيد العباد.. إن ما أخذ منا بالرفس, لا نستعيده إلا بالرفس, فلا داعي للرغي الكثير, وهيا دون تأخير.. هيا هيا جهز جيوشك.. واوعي شيء في الكون يحوشك.. واعلم أن عين الماء, لن تعود بالعويل أو البكاء.. بل بالتضحيات.. وبالعرق والدماء.