كنت فى طريقى لزيارة مكتبة هيئة الكتاب بجوار دار القضاء العالى فى شارع 26 يوليو ، ولكنى قبل الباب بقليل توقفت إذ كنت لحظتها أحدق ناحية شاشة تليفزيون معلقة على جدران مقهى ملاصق للمكتبة ، بالضبط أحدق فى آخر كلمات قالها الرئيس عبد الفتاح السيسى من كلمته التى القاها بذكرى الاحتفال بالمولد النبوى ، عندما راح يدعو الله ان تظل مصر دائما كتلة موحدة ويدا واحدة مباركة من الله سبحانه وتعالى تدفع عنها الشر والسوء والفتن ، فمصر ارض السماحة وعلى ارضها وبين اهلها عاش الانبياء والصحابة والقديسون يدعمون القيم الروحية والانسانية وحرية الانسان . فركت عينى بضع مرات وعدت أراجع هذه الصدفة الغريبة ، فأنا كنت فى هذه اللحظة التى استمع فيها الى هذه الكلمات على موعد للجلوس مع كتاب «حسن المحاضرة فى تاريخ مصر والقاهرة» للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطى والمحقق علميا من الباحث محمد ابوالفضل ابراهيم ، عمر الكتاب تقريبا يضاهى نصف قرن، فقد تمت طباعته تحديدا فى عام 67، والكتاب إذا توافرت لك الفرصة ووقع بين يديك وقرأته فستجد فيه من الحكايات والمعلومات التاريخية والمدعمة بالبراهين ، كيف ان مصر ظلت دائما ارض السماحة والايمان والخير والبركة, لدرجة انه ومن كثرة تلك الحكايات ومتعتها وتوثيقها لن تجد غضاضة فى ان تقول لنفسك : حقا إذا كانت مصر تلقب بام الدنيا ، فإنها وعن جدارة تستحق ان تلقب بأرض الانبياء .. فعلا ومن شدة استمتاعى بما قرأت ، شعرت بأن صفحات الكتاب لا أقول تتكلم، ولكنها بالتأكيد تكاد تحدث اصواتا مسموعة ، تتململ كالسجين الذى فرضوا عليه الصمت والسكون خمسين عاما ، أصوات تأكدت انه لو وجدت فرصتها امام كاميرات الفضائيات وميكروفونات الاذاعة وانطلقت عبر الاقمار الصناعية وموجات ال«اف إم»لأجبرت الدنيا أن تخرس وتسمع وتردد مصر القرآن والانبياء والصحابة، فما أجمل ان ينتابك ذلك الاحساس وأنت تحتفل بذكرى الحبيب حقائق السيوطى المنسية أحسست بالرهبة والخشوع يجمدنى فى مكانى ، ونسيت انى اجلس مع كتاب من ورق كنت ذاهبا لشرائه ، حتى نسيت فى اى مكتبة انا اكون ، فلقد استغرقنى السيوطى مؤلف الكتاب بجسمه الممتلئ وعمامته وقفطانه الازهرى ، الذى بدا فى نظرى غاضبا محتجا على مايخطط له التطرف والارهاب لتشويه سمعة مصر وتاريخها ومايتجاهله اهل الثقافة والفكر والمعرفة والاعلام من تاريخ مدهش وساحر . وكانت هذه المحاورة بيننا. قلت له : مالك يامولانا .. اراك غاضبا .. مابك ؟ نهض الاسيوطى من بين صفحات كتابه وراح يقطب حاجبيه ممتعضا إذ لابد أن ما ايقظه من مرقده وجعله يتكلم كان أمرا جللا ، فيكفى أن له على ارفف هذه المكتبة وغيرها من مكتبات الهيئة العامة للكتاب مايقارب من نصف قرن والآلاف من المارة تخترق شارع 26 يوليو وتتجول على ارصفته وتقف بالساعات امام محلاته وتدور حول مسكنه فى هذه المكتبة ولاتفكر ان تزوره، الصفحات الثقافية وبرامج الثقافة اذاعية كانت او تليفزيونا، معارض الكتب ومكتبات الازهر وارفف المساجد ودور العبادة تمتلئ بكتب التطرف والخرافات وربما لم يعن لواحد من هؤلاء ان يفكر ولو لدقائق فى حقائقه وحكاياته التى افنى عمره لأجل ان يعرف الناس سنوات مصر الماضية ويتمعنوا فى تاريخها. عندما لمحت هذا الغضب يرسم ملامحه قلت: ارجوك لاتغضب، فلا وقت للغضب الآن والانصراف، فنحن المصريين صرنا مثل الأسراب التائهة بعد ان فقدنا البوصلة والدفة والشراع، فلم نعد نعرف بلادنا كما يجب ان تكون المعرفة.. فهل تبقى معى ولو لدقائق تحدثنى فيها عن مصر وتطمئننى هل هى صحيح بلد الانبياء .. «وخد بالك» نحن نحتفى اليوم بذكرى الحبيب.. يعنى التفاصيل لابد ان تكون موثقة بالمراجع والشهود، فالاكاذيب والشائعات تملأ شوارعنا واسماعنا .. يعنى «شبعنا كذب». قال: وهل تتخيل انى سأحدثك دون سند او وثيقة، اطمئن ياسيدى، فكل كلمة اقولها لك هنا، اقل مافيها موثقة من مرجع واثنين وربما ثلاثة, فلا انا ولاغيرى من اصحاب هذه المراجع يستطيع ان يكذب، دعك من تخاريفكم واكاذيبكم التى انتشرت وسادت الآن، فمصر بالنسبة لنا كانت ودامت فى عيوننا فردوس الدنيا واطيب الارض. ما اعرفه ياسيدى انك تحققت من مراجع كثيرة ولكن الناس تريد ان تعرف من أين جاءت مصادر معلوماتك وحكاياتك ؟ لابد ان تعلم شيئا مهما للغاية، أن هذا الكتاب لم اكن اجرؤ على كتابته وتسميته بذلك المسمى «حسن المحاضرة فى اخبار مصر والقاهرة»، دون أن امر على فتوح مصر لابن الحاكم ، ومعرفة فضائلها من ابى عمر الكندى, وتاريخها من ابن زولاق، وخططها وحكاياتها الساحرة من المقريزى وصعيدها وطالعه من الادفوى وتاريخ صحابة الرسول الكريم الذىن نزلوا فيها من محمد بن ربيع الجيزى .. فلماذا اصبحتم تشككون فى كل شئ ولا تثقون بتاريخ بلادكم مثلنا؟ لأن المناخ المحيط بنا يامولانا فيه مكونات التآمر والتربص والتطرف اضعاف اضعاف مافيه مكونات السماحة والاعتدال والنوايا الحسنة. لاتقلق .. مصر محروسة الى يوم الدين ولن يستطيع احد ان ينال منها ومهما تربص المتربصون .. ساطلعك الآن على اسرار ذلك .. ولكن اوعدنى ان تنقل ماتسمعه لاهلك وجيرانك وناسك حتى يطمئنوا ولا يهتموا بما يتردد. تقصد تهديدات داعش ودعوات الفيس بوك وهيصة الفضائيات ؟ ليتهم يعلمون ماهى مصر .. لو عرفوا لصمتوا وخرسوا للنهاية .. كادت الدموع تنساب من عينيه ، لمحت فعلا وجنتيه تلمعان بدمع اختلط ببطانة قفطانه .. وفجأة راح يكفكف دموعه ويبتسم ابتسامة عتاب وبدأ يقول : لقد قال لى ابن زولاق .. إن مصر ذكرت فى القران فى 28 موضعا، وابن زولاق هو الحسن بن ابراهيم بن الحسين، مؤرخ مصرى وله عدة مؤلفات اذكر منها خطط مصر ومختصر تاريخ مصر، والسور القرآنية التى ذكرت فيها هذه المواضع على سبيل المثال لا الحصر تستطيع وبسهولة ان تتعرف عليها «البقرة، يونس، يوسف، الزخرف، القصص، الاعراف، غافر» وغيرها من السور.. فهل بلد ذكر فى القران بهذا الكم يمكن ان ينال منه الاعداء واصدقاء السوء والشر والفتن، أو كما قال الكندى أنه لايعلم بلد فى اقطار الارض اثنى الله عليه فى القرآن بمثل هذا الثناء، ولاوصفه بمثل هذا الوصف، ولاشهد له بالكرم غير مصر. نعم.. ولكن بماذا تفسر قلقنا وخوفنا وتأثرنا لما نسمع من شائعات وتخاريف وتهديدات شيطانية ؟ البعد عن تاريخ بلادكم وعدم قراءته ، فلو تمعنتم فيما كتبناه لكم وكلفت اذاعاتكم وفضائياتكم خاطرها بنقل هذا الكلام لاطمأنت قلوبكم وهدأت نفوسكم .. وعموما عبد الله بن الاشعرى قال لى اطمئنكم يامصريين، ان مصر هى اطيب الارض ترابا وابعدها خرابا ولن تزال منها البركة مادام شئ من الارض فيه بركة. دعوة سيدنا آدم وسيدنا يوسف والامام على ولكن يقولون إن الدنيا خلقت على شكل طائر من خمس صور، مصر صورة منها .. هل من توضيح ؟ نعم وهذا ما أشار اليه ابن عبدالحكم عن عبدالله عن عمرو ابن العاص عندما قال : خلقت الدنيا على خمس صور على صورة هذا الطائر .. الرأس مكة والمدينة واليمن ، والصدر الشام ومصر ، والجناح الايمن العراق والايسر السند والهند