باب عظيم من أبواب القبول عند الله، واستجابته لعبده، وفوزه برضاه، وسعادته باستجابته له.. إنه تضرع العبد إلى الله، لا سيما في النوازل والملمات، الأمر الذي يحبه "تعالى" من عباده، ويستجيبه لهم. والآيات القرآنية في هذا الباب كثيرة، وخير شاهد على ذلك. فقد دعانا الله إلى التضرع له سبحانه، مرات عدة في القرآن الكريم، سواء بأسلوب مباشر، كقوله سبحانه: "ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (الأعراف:55).
وقوله - مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم، والأمة معه-: "وَاذْكُررَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً" (الأعراف:205) كما دعانا سبحانه، بأسلوب غير مباشر - إلى التضرع، بالتحبيب فيه، والثناء على أقوام يلجأون إليه، والإنكار على أقوام لم يفعلوه، فقال تعالى: "فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ". (الأنعام:42). وقال سبحانه: "وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ".(المؤمنون:76). وقال أيضا: "إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ" (الاعراف:94). وفي المعنى اللغوي للتضرع أن "الضرع": ضرع الرجل يضرع بالفتح فيهما ضراعةً: "خضع، وذل"، وأضرعه غيره. وفي المثل: الْحُمَّى أَضْرَعَتْنِي لَكَ".. وتضرع إلى الله: أي: "ابتهل"، حسبما جاء في كتاب: "المختار من صحاح اللغة".
و"التضرع" غير مرتبط فقط بالضراء، والكروب والأزمات، بل يجب التضرع إلى الله، في كل وقت وحال، حتى في وقت الكرب، وحال العافية. والفعل "تضرع" أي: ابتهل، وتذلل، وخضع.. فإذا كنت في عافية، تضرع إلى ربك كي يحفظها عليك.. وإذا كنت في بلاء حل بك، فاضرع إليه سبحانه، ولسوف يستجيب لك.
قال تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ". (الانعام :42). وفي الآية تسلية للنبي صلي الله عليه وسلم، وفيها إضمار، أي: أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا، فكذبوا فأخذنانهم بالبأساء (بالْمَصَائِب فِي الْأَمْوَالِ)، والضراء: في الأبدان، هذا قول الأكثر، وقد يوضع كل منهما موضع الآخر. ويؤدب الله عباده بالبأساء، والضراء، وبما شاء .."لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ". (الأنبياء:23).. لعلهم يتضرعون: أي يدعون، ويذلون، مأخوذة من الضراعة، وهي الذلة، ويقال: ضرع فهو ضارع. قوله تعالى: "فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ". (الأنعام:43) في "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي، قال: "لولا: تحضيض، وهي التي تلي الفعل بمعنى: هلا، وهذا عتاب على ترك الدعاء، وإخبار عنهم أنهم لم يتضرعوا حين نزول العذاب". ويجوز أن يكونوا تضرعوا تضرع من لم يخلص، أو تضرعوا حين لابسهم العذاب، والتضرع على هذه الوجوه غير نافع، والدعاء حال مأمور به حال الرخاء، والشدة معا. ولكن "قَسَتْ قُلُوبُهمْ"، أي: صلبت، وغلظت، وهي عبارة تقال عن الكفر، والإصرار على المعصية.. "وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ"، أي: أغواهم بالمعاصي، وحملهم عليها. "فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَاعَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَاهُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ".(الأنعام:44،45). دلَّت الآية على أن التضرع ضد النسيان، وأنه صمام أمان يحفظ الإنسان، حتى من ظلمه نفسه. فما أحوجنا إلى الاستعانة بهذه العبادة، في مواجهة الحياة العصيبة الني نكابدها، والتي قد تنسينا أنفسنا، وتضعنا في مواجهة معها. [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد