بعد إعلان الحكومة الجديدة برئاسة المهندس شريف إسماعيل، تبارت وسائل الإعلام فى الحصول على تصريحات من الوزراء لاسيما الجدد تعكس رؤيتهم للمهام التى كُلفوا بها، والأولويات التى يرون أنها الأحق بالاهتمام فى ضوء التكليفات التى وضعها الرئيس السيسى للحكومة ككل. الأمر على هذا النحو طبيعي، فالمسئول الجديد يريد أن يعلن عن نفسه وطريقة تفكيره، والرأى العام من حقه أن يعرف كيف سيتصرف هذا الوزير خاصة فى الملفات التى تدخل مباشرة فى صميم حياة المواطنين اليومية كالخدمة الصحية والتعليم والنقل وسد العجز فى الموازنة ومواجهة الفساد وحياد الأجهزة التنفيذية فى الانتخابات البرلمانية المقبلة وتخفيف أعباء المعيشة وتوفير البنزين والخبز والمواد الغذائية بأسعار معقولة ووقف تدهور الجنيه المصرى مقابل العملات الاجنبية وضبط الغلاء المتوحش إلى آخر تلك الهموم اليومية والمعيشية لغالبية الشعب المصري. غير أنه من غير الطبيعى أن يتم التعامل مع هذه الحكومة أو تعامل الحكومة المواطنين باعتبارها تملك ناصية الزمن وأن لديها من العمر ما يكفى لكى تأتى بالمعجزات أو تغير الواقع جذريا. فكلنا يعرف أن عمر حكومة شريف اسماعيل لن يتعدى أربعة أشهر بأقصى تقدير، هذا إذا سارت الأمور كما هو مقرر لها فى الدستور، وتم انتخاب البرلمان فى غضون شهرين ثم فى غضون شهر أو شهرين آخرين على الأكثر سيتم تشكيل حكومة جديدة سوف تتأثر حتما بالتوازنات السياسية والحزبية التى ستسود البرلمان المنتخب. ومعنى هذا أن عمر حكومة شريف اسماعيل القصير لا يسمح لها سوى بأمرين أساسيين؛ أولهما توظيف كل الامكانات المتاحة لكى تخرج الانتخابات البرلمانية فى أفضل صورة من الأمان والنزاهة والحيادية والشفافية، وحتى تكون معبرة عن التوازنات الواقعية فى المجتمع حزبيا وسياسيا واجتماعيا. والأمر الثانى استكمال الملفات المفتوحة من الحكومة السابقة فى مجالات المشروعات الكبرى وتطبيق الاتفاقيات ذات الطابع الاستثمارى مع الجهات الخارجية، وتحسين الخدمات المقدمة للمواطنين قدر الامكان مع تحسين الأداء قدر المستطاع ومنع حدوث أزمات كبرى فى مجالات حيوية مثل البنزين والكهرباء والمواد الغذائية الرئيسية. وفى تصورى المتواضع أن الحكومة الجديدة إن ركزت على هذه الملفات ونجحت فيها ستكون قد أدت دورها وزيادة، أما إن تصورت أنها سوف تقلب الموازين رأسا على عقب، فستكون قد أخطأت فى حق نفسها وفى حق المجتمع ككل. فعلى سبيل المثال إن نجح وزير التربية والتعليم الجديد فى سد الثغرات المحيطة بالاستعداد للعام الدراسى الجديد والتى تسبب فيها سابقه لاسيما فى مجال التأخر فى طبع وتوريد الكتب المدرسية، واستطاع أن يطبق معايير واضحة تُحسن من أداء الوزارة ككل وأداء المدارس فى العام الدراسى الجديد، وشعر أولياء الأمور أن هناك تحسنا نسبيا فى العملية التعليمية، سيكون قد فعل شيئا جيدا مقارنة بعنصرى الزمن والموارد المتاحة.أما إذا تصور أنه يستطيع أن يوقف إدمان المجتمع ككل للدروس الخصوصية بقرارات إدارية وعقوبات غير ممكن تطبيقها، فسيدخل فى نفق ليس له آخر ولن يحقق شيئا. وكذلك إذا فعل وزير النقل الجديد قدرا ملموسا من التحسن فى الخدمة المقدمة لقطارات الغلابة على حد تعبيره جنبا إلى جنب تحسين الخدمة فى القطارات الأخرى التى يقبل عليها القادرون، فسيكون الأمر أيضا جيدا بمعايير الزمن والموارد المتاحة، وإذا قام وزير الصحة الجديد بضبط الأداء فى المستشفيات العامة وحاصر أوجه الفساد فى توريد الأدوية فسيكون قد فعل الكثير والمهم. وإذا قام وزير الثقافة الجديد بوضع رؤية لتعزيز الدور الثقافى لمصر يشارك فيها المثقفون من الأجيال المختلفة لتحمى شباب مصر من التورط فى التشدد الدينى وتصل بخدمات الثقافة إلى الشباب فى كل محافظات مصر فسيكون أمرا مقدرا. وقس على ذلك باقى الخدمات الأخرى التى تهم الناس مثل التموين والبترول والكهرباء. أما إذا تصور بعض الوزراء أنهم سيقومون بتغيير كامل المنظومة التى تعمل فيها وزاراتهم، فأعتقد أنها ستكون الخطوة الأولى نحو الفشل التام وتبديد فرصة أهم ما فيها ضرورة منع المزيد من التراجع فى الأداء والحفاظ على قدر من الثقة لدى المواطنين بأن القادم سيكون أفضل كلما توافرت الموارد وتعززت سبل مكافحة الفساد وقام كل مصرى بما عليه من واجبات وقبل بعضا من التضحيات الوقتية. وقد يرى البعض أن مثل هذه التوصيات الواقعية لا تُحفز على إحداث تغيير حقيقى وتجعل الوزارة مرهونة بأمور محدودة نسبيا، وهو أمر مردود عليه من زاويتين، الأولى أن تجاوز الواقع فى مدى زمنى محدود يتطلب موارد كبيرة وإجماعا وطنيا على المسار والأهداف واستعداد المجتمع ككل للتضحية بأشياء كثيرة انتظارا لنتائج التغيير الجذري، وهى أمور حتى اللحظة غير متوافرة بعد، وبالتالى فأى حكومة تعمل دون موجهات استراتيجية مقبولة ومدعومة من المجتمع ككل لن تحقق الكثير، والنتيجة أن الافضل لها أن تعمل وفقا لنظرية تحسين ما يمكن تحسينه ومنع التراجع فى الأداء وسد الثغرات أولا بأول، وبالتالى فإنها تقدم خدمة كبيرة للوزارة التى سوف تليها بعد الانتخابات البرلمانية، على الاقل أنها ستوفر لها أرضية أفضل للعمل وثغرات أقل. أما الزاوية الثانية فإن كل وزارة على حدة لديها الكثير جدا من المشكلات الداخلية ولديها مشكلات كبرى مع المجتمع فى اللحظة ذاتها، ويعد اكتساب ثقة الرأى العام مسألة حيوية وضرورية للغاية، وهذا لن يأتى إلا إذا كانت هناك مهام محددة للوزارة تستطيع أن تنجح فيها ويشعر بهذا النجاح المواطن البسيط والمواطن القادر على السواء. أما طرح مهام أكثر من الطاقة وعدم القدرة على الوفاء بها فسيؤدى إلى الانكشاف وإلى زيادة درجة عدم الثقة من الرأى العام، وبذلك يحدث ضرر مُضاعف. ليس عيبا أن تكون هناك رؤية واقعية تستند إلى الموارد المتاحة من ناحية أولي، والممكن فعله من ناحية ثانية، والممكن تأجيله من ناحية ثالثة، وفى كل الأحوال مطلوب مصارحة الشعب بما يمكن انجازه فى حدود المدى الزمنى المتاح دون خداع أو تضليل او تهوين او مبالغة. مثل هذه السياسة الواقعية لا تعنى إطلاقا عدم التحرك للامام، بل تعنى التحرك المدروس والمحسوب جيدا والذى يراعى قدرة المجتمع على استيعاب التغيرات، ويراعى أيضا القدرة الفعلية على إحداث هذه المتغيرات، ودون ذلك يصبح الفعل نفسه أيا كان نوعا من الوهم والخداع. لمزيد من مقالات د. حسن أبو طالب