من المتفق عليه في أدبيات التنمية أن الارتفاع بمعدلات اتاحة التعليم العالي الجيد, وزيادة الطاقة الاستيعابية لمؤسساته, والارتفاع بمستويات جودة خريجيه يسهم في تحسين المناخ الاقتصادي وتحقيق مستويات مرتفعة من الانتاجية والنمو الاقتصادي وتعزيز مستوي رفاهية المواطن. ومن الطبيعي أن تزداد أهمية هذه العلاقة في ظل مجتمعات الحداثة واقتصاد المعرفة بالألفية الثالثة, وفي اطار وجود توقعات راسخة بمزيد من الشفافية وآليات حديثة لضمان جودة التعليم واعتماد برامجه ونظمه ومؤسساته. إذ تؤكد معظم مؤشرات التنمية الدولية الارتباط المباشر أو العلاقة الطردية بين نجاح الدول في تحقيق أداء اقتصادي واجتماعي متميز وما أنجزته من تقدم في مجالات التعليم والبحث العلمي والتنمية التكنولوجية. ولكن يبدو أن الاختلالات الهيكلية التي تعاني منها بنية الاقتصاد العربي ومنظومته التعليمية قد أعاقت أو عرقلت تحقيق هذه العلاقة التنموية بالدول العربية مقارنة بباقي أقاليم العالم. وقد انعكس هذا الاختلال الهيكلي بشكل رئيسي علي معدلات اداء أسواق العمل العربية وقصورها في استيعاب الشباب من خريجي الجامعات ومؤسسات التعليم قبل الجامعي. فبرغم الاتجاه العالمي المتزايد في معدلات البطالة بفعل الازمة المالية والاقتصادية لعامي(2008 2009), فقد شهدت الدول العربية بمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا معدلات أكثر ارتفاعا خلال السنوات النهائية للعقد الاول من الألفية الثالثة. وتفيد مؤشرات اسواق العمل إلي أن معدلات البطالة بين الشباب تتراوح من(25%) في البلدان العربية بشمال افريقيا, الي(21%) في باقي بلدان الشرق الاوسط في عام2010, وهي معدلات مرتفعة بشكل كبير عند مقارنتها بقارة امريكا اللاتينية(15%), وجنوب آسيا(10%), وشرق آسيا(68%) كما تعاني الدول العربية في الوقت الراهن من قصور في انتاجية العمل وانخفاض في العائد الاقتصادي المتوقع للتعليم, وبما اسهم في تراجع معدلات الاداء الاقتصادي العربي بشكل عام, وتزايد اختلال أسواق العمل العربية, بشكل خاص. فمن الملاحظ أن معدلات اتاحة التعليم العالي واعداد الملتحقين به قد تزايدت بشكل كبير في النصف الثاني من القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة. فقد استمرت معدلات الاتاحة في النمو عبر الاعوام الثلاثين الماضية بما اصطلح علي تسميته بالطفرة الكمية; في اعداد الطلاب بمؤسسات التعليم العالي. ويعد هذا التطور العددي في الاقبال علي التعليم العالي نمطا عالميامصاحبا لنمو مجتمعات المعرفة, حيث تفيد منظمة اليونسكو أن المعدل الاجمالي للالتحاق بالتعليم العالي للشريحة السكانية من(18-23) سنة قد تزايد من(19%) في عام2000 الي(24%) في عام2005, ثم الي(28%) في عام.2010 كما تفيد تقديرات منظمة اليونسكو بزيادة أعداد الطلاب من(69) مليون طالب في عام1990 الي نحو(122) مليون طالب في عام2005, ومن المتوقع أن يستمر التوجه التصاعدي ليصل أعداد الطلاب في عام2025 الي ما يعادل(150) مليون طالب علي مستوي العالم. وبرغم توافق الزيادة في أعداد الطلاب ومعدلات الاتاحة بالعالم العربي مع التوجه العالمي للتعليم العالي بالعصر المعرفي, إلا أن هذه الزيادة في أعداد الطلاب لم تقابلها زيادة مماثلة في الطاقة الاستيعابية لمؤسسات التعليم العالي العربية المتمثلة في الكوادر البشرية والإمكانات التعليمية مما أسهم في تكدس الطلاب وعلي وجه الخصوص في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية- ومن ثم تراجع معدلات الأداء وجودة الخريج. وقد مثل هذا الاختلال بين أعداد الطلاب والامكانات التعليمية( أو الطاقة الاستيعابية) أحد أهم العوامل التي اسهمت في التأثير سلبآ علي العلاقة التنموية الطردية بين نمو قطاع التعليم العالي وتحقيق التنمية الاقتصادية. ويمكن تفسير الاختلال السابق بتدني نصيب الانفاق علي التعليم العالي من الناتج المحلي الاجمالي في الدول العربية. اذ تفيد المؤشرات الاقتصادية أن الانفاق علي التعليم العالي كنسبة من الناتج المحلي الاجمالي لدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ومنطقة الاتحاد الاوروبي في عام2010 يقدر بنحو(1.4%),(1.2%) علي التوالي, أما الدول العربية فيقدر نصيب التعليم العالي من الانفاق علي الناتج المحلي الاجمالي في دول عربية مثل مصر بنحو(0.9%), ولبنان بنحو(0.5%), والأردن بنحو(0.1%). وحيث أن المناخ التعليمي بالألفية الثالثة يتطلب التعامل مع منظومة التعليم العالي بنظرة مغايرة تأخذ في اعتبارها المواءمة بين مهامها الاكاديمية ودورها في انتاج المعرفة ونشرها من خلال أنشطة البحث والتطوير والابتكار, فإنه يتعين مضاعفة المخصصات المالية للبحث العلمي بالجامعات والمراكز البحثية المستقلة بغية تحقيق الاهداف المعرفية المرغوبة. وتعبر مؤشرات الانفاق علي البحث والتطوير بالدول العربية عن عدم الاتساق مع هذا التوجه المعرفي, حيث لا يتعدي الإنفاق علي البحوث العلمية بالدولة العربية كنسبة من الناتج المحلي الاجمالي نسبة(1%), بل يقل عن ذلك في عدد غير قليل من الاقطار العربية... وتؤكد النتائج حقيقتين يتعين أخذهما في الاعتبار لإصلاح منظومتي التعليم العالي والبحث العلمي: الأولي: يمثل حجم إنفاق الدول العربية علي التعليم العالي والبحث العلمي نسبة متدنية بالمقارنة بكل مناطق العالم. وهو ما يتطلب بالضرورة اعادة تخصيص موارد مالية إضافية لدعم جهود التعليم والبحث والتطوير. الثانية: تعد مناطق العالم التي حققت تقدما علميا وتكنولوجيا ملموسا وتحولا سريعا الي اقتصاد المعرفة, الاكثر انفاقا وتخصيصا للموارد المالية علي أنشطة التعليم والبحث والتطوير.. وتمثل نسبة السكان الذين يحملون درجة جامعية مؤشرا مهما فيما يخص دور التعليم العالي في دفع عملية التنمية الاقتصادية. ويمثل العائد الاقتصادي المتوقع من التعليم العالي احد أهم العوامل المؤثرة علي معدلات الالتحاق به ومن ثم السمات الخاصة بعرض قوة العمل المتمثلة في خريجيه. كما ان ارتفاع العائد الاقتصادي للتعليم يسهم في زيادة كفاءة عناصر الإنتاج وتنامي حجم الاستثمارات, ومن ثم تحسين معدلات النمو الاقتصادي وتعزيز مسار التنمية بوجه عام. نخلص مما سبق أن أحد الاسباب الرئيسية لتراجع الاداء الاقتصادي العربي وتنامي معدلات البطالة بأسواقه, تكمن في أوجه القصور التي تعاني منها منظومة التعليم العالي العربية من اختلال بين معدلات اتاحة التعليم وحجم الطاقة الاستيعابية لمؤسساته, وتدني معدلات الانفاق علي التعليم العالي والبحث العلمي, وتواضع نسبة خريجي التعليم العالي في السكان, وانخفاض العائد الاقتصادي للتعليم وانتاجية خريجيه, وأخيرا القصور في الكفاءات العلمية والمهارات المهنية والعامة للخريج التي تتطلبها أسواق العمل في العصر المعرفي بالألفية الثالثة...