المتابع لتطور خبرة التنمية في الصين وكيفية تعاملها مع المشاكل والأزمات التي تتعرض لها تنمو لديه مشاعر الاحترام والتقدير والاعجاب لجدية هذا الشعب, فرغم إنجاز الاقتصاد الصيني المبهر بكل المعايير والذي رفعه الي مصاف ثالث أكبر اقتصاد في العالم. وثاني أكبر مصدر وأول دائن للولايات المتحدة وهي انجازات غير مسبوقة في التاريخ.. رغم ذلك فإن الصينيين يتحدثون بكل تواضع عما أنجزوه ويرفضون وصف بلادهم بالدولة الكبري ويؤكدون أنه مازال أمامهم طريق طويل بسبب ضخامة عدد السكان كما يرفضون آية مبالغة بشأن ما تحقق ويركزون علي التحديات والمشاكل. ومناسبة هذا الحديث هو خطاب رئيس الوزراء ون جياباو أمام البرلمان الصيني يوم3/9 والمناقشات التي تلته. فمع أن الصين حققت نموا اقتصاديا بلغ8% في العام الماضي, وزادت صادراتها في العام الماضي45% ويتوقع الخبراء إمكانية أن تصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم, فقد أشار جياباو الي ان الاقتصاد الصيني يحتاج الي اعادة هيكلة حتي يتمكن من المنافسة بشكل أكبر علي المستوي العالمي, وطالب الشركات الصينية بتطوير قدرتها علي الابتكار والتجديد التكنولوجي وزيادة انتاج السلع ذات التقنية والجودة العالية, ودعا المواطنين الي زيادة الاستهلاك والإنفاق في مجالات السياحة والصحة البدنية وغيرها من الخدمات, ووعد بأن تتخذ الحكومة الاجراءات الكفيلة بمواجهة مشكلة ارتفاع أسعار العقارات. وإذا كان ازدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء من المشاكل التي تواجه اقتصادات الدول في المراحل الأولي من النمو الاقتصادي فإن المسئولين الصينيين لا يتعاملون معها بمنطق الإنكار أو التجاهل وإنما يتحدثون عنها صراحة فيقول رئيس الوزراء الصيني إن من الضروري تقليص الهوة المتزايدة بين الفقراء والأغنياء في مستوي الدخول, وأن المنافع والثمار المترتبة علي تحقيق النمو يجب أن توزع بشكل أكثر تكافؤا وعدلا, وأشار في خطابه أكثر من مرة الي ضرورة جعل المجتمع الصيني أكثر إنصافا قائلا لن نجعل كعكة الثروة الاجتماعية أكبر عن طريق تطوير الاقتصاد وحسب بل بتوزيعه بطريقة أكثر عدلا كذلك, وأكد ان الحكومة سوف تعمل علي ردم الهوة بين الأغنياء والفقراء ورأب الصدع الاجتماعي, وعد باعادة النظر في نظام تسجيل المواطنين والذي يحرم سكان الريف من المزايا الاجتماعية في حال انتقالهم للعمل في المدن. ووعد جياباو بتحفيز النمو وذلك من خلال مزيد من خدمات الرعاية الاجتماعية وضخ الأموال في المناطق الريفية والتي يقل متوسط دخول سكانها الي ربع دخول سكان المدن مؤكدا ان تحسين الرعاية الاجتماعية والصحية والخدمات الريفية لسكان الريف الذين يصل عددهم الي700 مليون نسمة هو أمر لازم لتأمين سلامة اقتصاد الصين وسيطرة الحزب علي مجتمع منقسم اجتماعيا علي نحو متزايد, وأن تحسين حياة الناس هي وحدها التي تضمن استمرار التنمية الاقتصادية وتوفير الأساس القوي للتقدم الاجتماعي والاستقرار الدائم للبلاد. وهذا القول يشير الي حقيقة ان التنمية الاقتصادية ليست هدفا في حد ذاتها ولكن الهدف هو حياة أفضل للمواطنين وأن عملية زيادة الثروة عبر التنمية الاقتصادية ينبغي أن ترافقها عملية توزع عائدها بشكل منصف وعادل. وبنفس شجاعة مواجهة الحقائق تحدث رئيس الوزراء الصيني عن انتشار الفساد وأن محاربة الفساد ستكون من أولويات الحكومة المهمة لأن هذه الظاهرة قد تؤثر علي شرعية الحزب الشيوعي الحاكم قائلا يتعين علينا أن نولي مكافحة الفساد أولوية أساسية لانها قضية حيوية لتعزيز سلطاتنا.. ووعد بإنشاء نظام رادع ووقائي متكامل, لتكثيف الرقابة علي جميع المسئولين الحكوميين وقيادات الحزب للتأكد من نزاهة تصرفاتهم المالية وعدم استغلال مناصبهم لأغراض خاصة, وفي هذا المجال أشار جياباو الي تطوير الإدارة الحكومية ووعد بنظام فعال وكفء ودعا الي مكافحة الإسراف والتبذير علي الأنشطة المظهرية واقامة المباني الإدارية الفاخرة والحفلات وضبط استخدام السيارات الحكومية وجميع الأنشطة المشكوك في جدواها. وقال إنه سيتم تشجيع الشعب علي رقابة الحكومة وانتقادها, ومع أن القيادات الصينية تتحدث عن أهمية مكافحة الفساد من سنوات, فإن الظاهرة مازالت قائمة. وقد تكون الاشارة الي ضرورة متابعة أنشطة الحكومة وانتقادها مدخلا لتخفيف الرقابة التي تفرضها الحكومة علي الصحافة حتي يمكن لها أن تقوم بدورها في هذا المجال. الصعود التاريخي للصين من دولة علي هامش الاقتصاد الدولي في السبعينيات الي قلب التعاملات الاقتصادية والمالية أهم قصة نجاح لدولة في الربع الأخير من القرن العشرين, وإذا كان من الصعب نقل خبرة الصين حرفيا الي الدول الأخري بحكم اختلاف الظروف, فالأمر الوارد هو الاستفادة من خبرتها ودروسها ومن أهم هذه الدروس شجاعة مواجهة الحقائق مهما كانت صعبة أو قاسية فهذه المواجهة هي الخطوة الأولي لحلها وتجاوزها.