على الرغم من أن زيارتى إلى الصين لم تستغرق سوى ستة أيام من بينها عشرون ساعة طيراناً متواصلاً، فقد كانت المشاهدات والخلاصات التى عدت بها أشبه بحلم عابر.. حلم وددت لو أمكن لأدبائنا العرب أن يستلهموا منه حكايات لأطفال.. وأن يصنع منه خبراؤنا تقارير وأرقاماً توضع على مكاتب المسؤولين.. وأن يصبح موضوعاً للنقاش فى برامجنا التليفزيونية الساهرة لما بعد منتصف الليل. ما الذى حدث فى الصين بالضبط فأحال الهموم والتحديات إلى أحلام وإنجازات؟ هذا ما حاولت البحث عنه على هامش زيارتى إلى الصين بمناسبة إطلاق مؤسسة الفكر العربى المرحلة الثانية من مشروعها النوعى للترجمة «حضارة واحدة»، وهو المشروع الذى يتجه شرقاً لترجمة أهم الكتب الصينية التى تشرح أسباب وعوامل تجربة النهوض الصينى العظيم، وتحكى من منظور صينى تتم ترجمته مباشرة إلى اللغة العربية دون لغة وسيطة كيف أصبحت الصين التى كانت من عداد الدول النامية إحدى كبريات العالم الأول؟ لقد ترجمنا عن الآخرين الكثير من الأشعار والقصص والآداب وآن الأوان لكى نعرف من خلال الترجمة كيف يفكرون ويعملون وينجزون. (1) لعلّ السؤال الذى يجب البدء به هو: هل ما حدث ويحدث فى الصين اليوم يرقى بالفعل إلى مصاف الأحلام؟ الحقائق والمقارنات وحدها تقدم الإجابة وتعفى من أى تنظير. أليس حلماً أن الصين التى كانت منذ ثلاثين عاماً فقط دولة نامية مجهدة ومثقلة بكتلة سكانية هائلة هى التى تحتل اليوم المرتبة الثانية ضمن أكبر اقتصادات العالم، وهى الدولة التى تصدّر للولايات المتحدةالأمريكية وحدها ما قيمته نصف مليار دولار أمريكى يومياً، أجل.. يومياً وليس سنوياً أو شهرياً؟ أليس من قبيل الحلم أن الدولة التى لم تشهد أى إنجاز علمى أو تكنولوجى قبل مائة عام وكان عدد الذين يعرفون حساب التفاضل والتكامل فيها لا يتجاوز عشرة أشخاص قد أصبحت اليوم هى الدولة التى نجحت ثلاث مرات فى إطلاق سفينة فضاء مأهولة لتكون بذلك ثالث دولة فى العالم فى تكنولوجيا الخروج من كبسولة مركبة الفضاء؟ لماذا لا يكون الحلم صينياً والدولة التى كانت تعانى منذ عقود قليلة من أمية متفاقمة وتعليم متواضع قد حصدت جامعاتها أحد عشر مركزاً متقدماً فى تصنيف أفضل خمسمائة جامعة فى العالم لعام 2009، والدولة التى أصبحت تملك-باستثناء الولاياتالمتحدةالأمريكية- أسرع جهاز كمبيوتر فى العالم، وتخصص فى موازنتها للبحث العلمى فى العام 2008 نحو 70 مليار دولار أمريكى؟ ألا يرقى الإنجاز الصينى إلى مصاف الحلم حين نعلم أن الدولة التى لا تمتلك سوى 7% من مساحة الأراضى الزراعية فى العالم قد نجحت فى إعالة وإطعام نحو 20% من عدد سكان العالم لتوفر للشعب بذلك أربعة مليارات وجبة غذاء يومياً؟! لنعترف بأن الحلم الإنسانى قد أصبح صينياً بامتياز، حين نعرف أن الدولة التى يعيش فيها 900 مليون فلاح قد أصبحت هى نفسها الدولة الصناعية الحديثة التى تحتل المركز الثانى عالمياً فى صناعة الطاقة، والمركز الثالث عالمياً فى صناعة المعلومات، وها هى بصدد تحقيق إنجاز مبهر آخر من خلال إنشاء أكبر جيل قادم من الإنترنت حجماً فى العالم. ما الذى حدث بالضبط فى الصين؟ لا شك أنه سؤال كبير يحتاج إلى إجابة بل إجابات مطوّلة. هل يمكن القول مثلاً لدواعى الإيجاز والتقديم أن كلمة السر فى كل ما جرى لا تخرج عن همة المجتمع وإرادة الدولة؟ ربما لا تشبع مثل هذه الإجابة الفضول وقد لا تضيف جديداً، فليس هناك من تقدم فى العالم لا تصنعه همة المجتمع وإرادة الدولة، الأرجح أن لكل منا إجابته الخاصة فى تفسير الحلم الصينى. وقد يجرنا هذا التفسير إلى الاستغراق فى التنظير دون أن ندرى، لكن الواقع- الأكثر بلاغة من كل تنظير- يؤكد أن ما حققته الصين فى العقود الأخيرة إنما يرجع إلى عاملين أساسيين هما البراجماتية والانفتاح. بدأ الفكر البراجماتى الجديد فى الصين منذ ربع قرن من الزمان وتحديداً فى العام 1984، حين أطلق الرئيس الصينى الراحل دنج شياو بنج مقولته الشهيرة «دولة واحدة بنظامين»، وهو يشير إلى قبول الصين بالنظام الرأسمالى المطبق فى هونج كونج التى عادت فيما بعد إلى الوطن الأم. كان الصينيون يطمئنون العالم بشأن الحفاظ على النظام الاقتصادى المطبق فى هونج كونج، وكأنهم يطمئنون أنفسهم وقد عقدوا العزم على أن يصبح النظام الاقتصادى ذاته للصين كلها. الجملة ذاتها تم التعبير عنها بتشبيه صينى آخر فى غاية البلاغة يوم قال الزعيم الصينى «ليس المهم هو لون القطة، الأهم أن تكون قادرة على اصطياد الفئران»!! كانت هذه هى الإشارات المبكرة للبراجماتية الصينية الجديدة، لكن هذه البراجماتية لم تكن تعنى-لدى الصينيين- أن تتخلى الدولة عن مسؤوليتها الاجتماعية لا سيما فى مجالات التعليم والصحة، وهذا وجه آخر لبراجماتية ذكية ومرنة، مخططة ومدروسة. (2) حين وطأت قدماى مطار بكين الجديد كنت أدرك أن التفاصيل الصغيرة هى التى تصنع فى النهاية المشهد الكبير، وأنه من هذه التفاصيل تتكون دلالات الأشياء، مطار ضخم مبهر ينتقل فيه الركاب عبر قطارات داخلية سريعة وهادئة، ولا تخلو حداثته الواضحة من لمسات جمالية، وأسقف عالية متموجة تثير الخيال، لم ألمح فى وجوه موظفى الجوازات فى المطار هذه الصرامة الغامضة التى تشى بها وجوه موظفى الأمن فى معظم مطارات العالم. بل وجدت موظفين- رجالاً ونساء- يتعاملون مع الناس فى لطف ظاهر. لاحظت أن كل منافذ الجوازات مفتوحة لاستقبال القادمين إلى الصين ومراجعة أوراقهم مما أسهم بالطبع فى تقليص أعداد الصفوف المتراصة المزدحمة. فى مطارات أخرى قد يتكدس المسافرون فى صفوف طويلة مرهقة أمام عدد محدود من منافذ الجوازات المفتوحة بينما أغلبية المنافذ الأخرى مغلقة لأسباب غير مفهومة ، لا أعتقد أن من بينها قلة عدد ضباط الجوازات لا سيما فى مجتمعات تنتشر فيها البطالة الحقيقية والبطالة المقنّعة، على حد سواء! حين استعان ضابط الجوازات الذى يفحص أوراقى بزميله ليسأله عن أمر ما فوجئت به يعتذر لى، لا لشىء إلا لأنه اعتقد أنه كان سبباً فى تأخيرى!! وأمام نافذة ضابط الجوازات فى المطار توجد لوحة إلكترونية صغيرة يوجد مثلها عند كل منافذ المعاملات الإدارية فى الدولة، الهدف منها هو استطلاع رأى المتعامل فتضغط على أحد أزرار أربعة لتعبر عن رأيك فى مستوى الخدمة الإدارية المقدمة. فهل انتظرت طويلاً؟ وهل أنت غير راض عن مستوى الخدمة؟ أم أنت راض؟ أم أنك فى غاية الرضا؟! حين أبديت إعجابى بهذا المطار الضخم الحديث عرفت من مرافقى أنه افتتح فى العام 2008 بمناسبة دورة الألعاب الأوليمبية التى استضافتها الصين. قلت لمرافقى إنه إذن مطار المستقبل! ضحك فى خجل قائلاً نحن الآن بصدد إنشاء مطار آخر أكثر اتساعاً وحداثة ليواجه متطلبات انفتاحنا على العالم! (3) الانفتاح هو أكثر الكلمات التى ترددت على مسامعى فى كل مرة سألت فيها عن أسباب الطفرة الهائلة فى مسيرة النهوض الصينى العظيم. فهذا الانفتاح الصينى على العالم هو السبب الذى مكّنهم من أن تصل قيمة الصادرات الجمركية الصينية سنوياً إلى العالم وفقاً لأرقام العام 2008 إلى نحو تريليون و220 مليار دولار أمريكى، بينما بلغت وارداتها 955 مليار دولار أى بفائض ميزان تجارى قدره 265 مليار دولار، بينما الولاياتالمتحدةالأمريكية تعانى من نقص فى ميزانها التجارى يبلغ حوالى 800 مليار دولار أمريكى، وبفضل هذا الانفتاح أيضاً استطاعت الصين أن تجذب إليها استثمارات أجنبية وصلت قيمتها إلى 880 مليار دولار أمريكى وذلك منذ بدء الانفتاح فى العام 1979 وحتى العام 2006. والصين لم تعد دولة مستقبلة فقط للاستثمارات الأجنبية ، بل غدت دولة مصدرة لاستثمارات صينية فى الخارج حيث بلغ مجموع الاستثمارات الصينية خارج الصين فى العام 2008 أكثر من أربعين مليار دولار أمريكى، ومن المؤكد أن هذا التدفق الاستثمارى الهائل على الصين لم يكن من فراغ، بل كان نتاجاً لمنظومة من قواعد وضمانات الاستثمار، ومناخاً مشجعاًَ يجب التعرف عليه والإحاطة بظروفه وتفاصيله، لا سيما أن الصين بقيت دائماً وحتى الآن بلداً لا يأخذ بالليبرالية السياسية، وهذا فى ذاته مظهر آخر للأعجوبة الصينية. وكان طبيعياً أن يزيد الناتج الإجمالى المحلى لهذا البلد الذى يضج بالحركة والنشاط والانتاج، لكن المدهش أن يصل هذا الناتج المحلى فى العام 2008 إلى رقم قياسى ناهز السبعة تريليونات دولار أمريكى وهو ما يضعها مباشرة بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية التى يصل إجمالى ناتجها المحلى إلى 13 تريليون دولار وقبل اليابان التى حققت أربعة تريليونات دولار أمريكى. ولهذ أصبحت الصين بلداً جاذباً لأدمغته المهاجرة فى الخارج لا بلداً طارداً لها، وهى الظاهرة العكسية المحزنة التى يعانى منها المجتمع العربى. وتحقق الصين أكبر معدلات العودة لباحثيها الدارسين فى الخارج إلى أرض الوطن مقارنة بالدول الأخرى. ومن مظاهر انفتاحها على العالم أنها أوفدت خلال السنوات العشر الأخيرة ما يزيد على مليون باحث شاب للدراسة والبحث فى الدول المتقدمة، ويبلغ معدل عودة هؤلاء إلى الوطن الأم بعد انتهاء دراستهم أكثر من 90% من عدد الذين سافروا. ولم يكن الانفتاح الصينى على العالم مجرد حاجة اقتصادية أو تكنولوجية فحسب، إنه رؤية استراتيجية شاملة ومتكاملة الجوانب تضم الثقافى والاجتماعى، جنباً إلى جنب مع الاقتصادى والتكنولوجى. وكانت إحدى أدوات الانفتاح الصينى على العالم العربى هى تعلم اللغة العربية. يأسرونك حين يقولون لك نحن متشابهون فى التاريخ والحضارة والمعاناة. ويفضلون استخدام كل ما يشتق من كلمة الصداقة، فلا يشعرونك أبداً أنك مجرد سائح أو متعاقد فى صفقة أو مشارك فى مؤتمر، مع بأنك بالفعل أحد هؤلاء!! ومع أن الدوافع الحقيقية للانفتاح الصينى على العالم العربى هى دوافع اقتصادية وتجارية فى المقام الأول، إلا أن استخدامهم الشائع لكلمة الصداقة يعطى للمسألة بعداً إنسانياً دافئاً ربما تحتاج إليه فى برد بكين الشديد! ولكى يواجه الصينيون متطلبات الانفتاح على العالم العربى كان هذا التيار الجارف لتعلم اللغة العربية. فهناك اليوم أكثر من عشرين جامعة صينية توجد بها أقسام لتعلم اللغة العربية، وفى بكين كلية مستقلة لتعليم اللغة العربية. وفى كل عام يلتحق نحو 600 طالب صينى بهذه الجامعات والمعاهد لتعلم اللغة العربية، ولا شك أنهم يرون فى العلاقات مع العالم العربى جزءاً من مستقبلهم الاقتصادى والتجارى، ولا شك أنهم منشغلون إلى حد الأرق بمسألة الطاقة وإشباع حاجتهم التنموية المتزايدة من النفط. ولنا أن نتخيل أنه لا يوجد فى الصين حالياً أكثر من 40 مليون سيارة، وبالتالى فلو ارتفع مستوى المعيشة بحيث يصل معدل اقتناء السيارات إلى سيارة واحدة فقط لكل أسرة فلن يكفى الصين وحدها كل الإنتاج العالمى السنوى من النفط!! وللصينيين الذين يتكلمون اللغة العربية أسلوب فريد، حيث يعطى كل منهم لنفسه اسماً عربياً يسبق اسمه الصينى ويستخدمه فى التعامل مع العرب، ويصل الأمر إلى أن يضيف فى بطاقة تعارفه اسمه العربى المصطنع مقروناً باسمه الصينى. فهذا هو السيد «باسل» شياو بونج، نائب رئيس المؤسسة الصينية للنشر، وهذا هو السيد «مخلص» دو زوانج، المترجم الصينى النشيط، والسيد «أحمد» الشاب الصينى المهذب الوديع الذى كان مرافقى فى رحلة الصين، وصديقتنا السيدة «فريدة» وانج فو، رئيسة تحرير مجلة الصين اليوم. هؤلاء هم المستشرقون الجدد الذين يحدثونك بأدب جم عن العالم العربى، ويظهرون لك احتراماً ملحوظاً عن الثقافة العربية ويعرفون رموزها وأدباءها ويتابعون أعمالهم. قبل أيام من زيارتى كانوا يحتفلون بالشاعر العربى الكبير أدونيس، ومن قبله استقبلوا الروائى المبدع جمال الغيطانى.حاولت دون جدوى فى البداية أن أستدرج أصدقائى الجدد من المستعربين الصينيين لأعرف منهم كيف يرون أحوال العالم العربى. كانوا يردون بأدب جم ويتحاشون توجيه النقد ربما لأن علاقتنا لم تزل بعد حديثة! وحين ألححت بالسؤال على أحدهم أجابنى وهو يبتسم فى خجل وعيناه تنظران إلى اتجاه آخر: لديكم طاقات هائلة لكنكم لا تتفقون !! قالها بهذا التعبير المهذب الخجول!