تتطور الصين تطورا كبيرا وتنطلق بسرعة فائقة, كل الأمم تنظر إليها منبهرة. أصبحت الصين تلعب دورا رئيسيا في تشكيل العالم إقتصاديا وسياسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي عام1991. ولقد أصبح نفوذها قويا علي الساحة الدولية. وفي ظل الأزمة الاقتصادية العالمية تظل الصين صامدة في مواجهة الأزمة, عبر حزمها لحفز الاقتصاد الوطني ومبادراتها الإيجابية في الخارج وتأكيد مقولة الصين قادرة علي إنقاذ الاقتصاد العالمي, لقد ارتفعت حصة السلع الصينية في الأسواق العالمية الي22% كما يضع تقرير البنك الدولي الصين في مرتبة ثالث أكبر اقتصاد في العالم, والصين أيضا تصل لمعدلات تنمية نحو10% سنويا, وتشير التقديرات إلي أنه إذا واصلت الصين السير بنفس الخطي التنموية, فإن حجم الاقتصاد الصيني في المستقبل, يمكن أن يصل إلي30% من حجم الاقتصاد العالمي عام2030. تساؤلات تتردد كثيرا عن سر قوة الصين؟, ما هو الفكر والمنهج وراء نهضة التجربة الصينية؟, كيف أجبر الصينيون الآخرين علي النظر إليهم بتقدير واحترام واعتبار؟. إن الصين بلد صاحب حضارة قديمة علي المستوي التاريخي, وأصحاب الحضارات لهم تراث إنساني يظل معهم في عاداتهم وتقاليدهم لا ينفصل عنهم, مهما تطورت مفردات الحياة. ومن هذا التراث الثقافي العريق كتاب فن الحرب لسون تزي المنشور بالمجلس الأعلي للثقافة, المشروع القومي للترجمة والكتاب يشرح أمثلة واقعية عن تطبيق فنون الحرب المختلفة وكيفية التعامل مع العدو والانتصار عليه. كتبت سون تزي هذا الكتاب عام500 قبل الميلاد تقريبا. وعلي الرغم أن مضمون الكتاب وفلسفته تحتوي علي شروح في وضع الخطط الحربية والإستراتيجية للقتال, إلا أنه تجاوز المجال الحربي لتطبيق نظرياته في الاقتصاد والسياسة والتعليم وغيرها من المجالات المختلفة. ومن هنا أصبح هذا العمل ذا أهمية بالغة علي المستوي الصيني والفكر الإنساني برمته. كان لهذا الكتاب تأثير كبير علي قادة الصين, لأنهم أدركوا قيمته الفكرية التي يمكن أن تطبق في نهضة المجتمع, ثلاث ركائز يمكن أن نستخلصها من المنهج الصيني. أولا: السبق إلي المعرفة يحقق النصر مبدأ أساسي من مباديء كتاب فن الحرب, توضح سون تزي أن من يريد أن يحصل علي النصر في معركته عليه أن يعرف أولا, وتكون هذه المعرفة جيدة, ويستمر في تطوير معرفه حتي تكون مواكبة للأحداث والمتغيرات, حتي يمكنه اتخاذ القرار السليم, نعم, المعلومات هي المادة الحقيقية لاتخاذ القرار, وهي النور الذي يهدي الي الطريق السليم, المعرفة قوة, لذلك أخذت الصين في تطوير التعليم بكل مراحله, وأخذت الصين أيضا خطوة جادة في سياسة الاستعانة بالعلماء الذين يعملون في الخارج وبخاصة الحاصلين منهم علي جوائز نوبل في المجالات المختلفة الكيمياء الفيزياء الطب.. وعلي سبيل المثال عالم الصواريخ الصيني ليانج شوبان والذي عاد الي الصين, وكان قد حصل علي جائزة نوبل في الفيزياء, وقد آثر أن يعود لبلاده والمساهمة في تقدمها ورقيها تاركا وراءه كل المغريات, لقد وفرت له الصين المناخ العلمي من معامل وأجهزة حديثة, والمكتبات التي بها المراجع والأبحاث القيمة, وفريق العمل الذي يؤدي دوره في منظومة جماعية, هكذا لم تتبدد طاقات العلماء في مهاترات بيروقراطية, أو معوقات تدفع للكسل, وإنما التسهيلات نحو الابتكار, نحو الرقي, نحو إنجازات للوطن الصين. ثانيا: تنمية الاقتصاد, أخذ القادة يتعاملون مع الإقتصاد القومي من منظور فن الحرب ما هي مشكلات الناس؟, ماهي المعلومات المطلوبة؟, ما هو الهدف في المرحلة القريبة وللمرحلة البعيدة؟, وما هي قدراتنا المادية والبشرية؟, كيف يمكن تحقيق المكاسب دون خسائر؟, كيف يمكن المنافسة والتميز؟. كيف يمكن غزو الآخرين؟, كل ذلك في هدوء, إنه التخطيط الذي يدعو القائد إلي قياس دقيق يحدد مقدار القوة أو ضعفها, طبقا لمباديء خمسة وهي السياسة والمناخ والجغرافيا ومواصفات القائد والقوانين, التي يجب اتباعها. انطلاقا من هنا رفعت الصين راية التحديث, وبخاصة بعد إصلاح وانفتاح عام1978, وعبأت المجتمع بهذا المفهوم, لكي يتحدي كل الظروف لكي يصل لتلك الغاية, أصبح شعار التحديث هو المفتاح والخيار الوحيد لتطوير الصين لهندسة المستقبل. ومن هنا أدرك المجتمع بكل فئاته أنه لا يوجد سوي طريق التحديث لكي يتم التغلب علي الفقر والتخلف والدخول في المنافسة العالمية, لذلك أخذ المجتمع هذه الحركة بكل قوة وجدية في إعادة البناء لمعان جديدة في عملية التقدم وأصبحت قيمة العمل المتقن والمستمر واحدة من القيم الكبري في نسيج الحياة اليومية للشعب الصيني وفي كل الأنشطة التي يمارسها, مما دفعه الي مزيد من الإنتاج والذي انعكس بدوره علي الواقع الاقتصادي, ومن ثم علي ملامح المجتمع الصيني الذي شهد جوا من الانتعاش والحيوية. ثالثا: إن الأسلوب المائي نهج صيني, حيث ينساب الماء علي الأرض بهدوء شديد متجاوزا كل العقبات التي تقابله ومتشكلا بطبيعة الأرض في انحناءاتها وتموجاتها بما يتناسب مع الحيز المكاني الذي تتحرك فيه, والماء أيضا يولد قوة كبيرة رغم كونه مادة هادئة سلسة, إلا أنه عندما ينحدر من مكان مرتفع يمكنه أن يقتلع الصخور من أماكنها بل ويسوقها أمامه. إن تحرك المنتجات الصينية والمصانع الصينية علي مستوي العالم يسير بمنطق الماء, سرعة وإنسيابية وقوة هادرة تدفع من أمامها من سلع ومنتجات لكي تأخذ مكانها, وهذا لأنهم فهموا طبائع البشر واحتياجات السوق, أي طبيعة الأرض والمكان والزمان والشخصية, وأنتجوا بكل جدية سلعة رخيصة يمكنها أن تنتشر بسرعة البرق بهدوء. من الغريب أن الصينيين لا يعتبرون ما تحققه بلادهم إعجازا بل يصرون علي أن بلادهم دولة نامية, وأحيانا أقل من نامية, وليست قوة عظمي, وإنما بلد يحاول أن يحسن من قدراته, هل هذا نوع من التمويه والذكاء لكي تبتعد العراقيل من طريق تقدم الصين للأمام؟ فالقوي الكبري تحب أن تنفرد بالقوة وحدها, نعم, والصين لا تريد أن تدخل في منطقة صراع تحيد بها عن طريق التحديث, وتجرفها إلي مهاترات تكلفها من إستنفاذ وهدر الموارد والوقت. أحسنت أيتها الصين, ما أحوج العالم لرؤي تبني وتدفع لنهضة ورقي المجتمع الإنساني.