ولدت زوجتى صماء بكماء, ومع ذلك أكملت تعليمها حتى حصلت على شهادة تأهيل المعاقين فى مهنة التفصيل, وقد لاحظتها كثيرا, ولم أجد فرقا بينها وبين أى فتاة عادية, فجذبتنى اليها برقتها وعذوبتها ووجدتنى أسير حبها, فقررت أن أرتبط بها وعشت أياما وليالى أبحث الأمر مع نفسي, واستجمعت قواى وفاتحت أسرتى فى الزواج منها فثاروا جميعا ضدى واتهمونى بالجنون, إذ ما الذى يدفع شابا عاديا مثل كل الشباب الى ان يرتبط بفتاة لا تسمع ولا تتكلم ولا تعرف غير لغة الإشارة، ودخلت فى صراعات عديدة معهم, لكننى انتصرت لحبى فى النهاية وتزوجتها برغم أنف الجميع, وقلت لهم اننى حر فى اختياري, ولن أرتبط الا بمن ارتضاها قلبى زوجة لي, وتقدمت اليها فوافق اهلها بعد أن شرحوا لى ظروفها, وانتقلنا الى عش الزوجية, ولم أندم على اختيارى بل زاد حبى لها وتعلقى بها, ورزقنى الله منها بثلاثة أبناء، وأحسست اننى ملكت الدنيا بأسرها, فزوجتى جميلة بل وأراها أجمل نساء الأرض, وترعى أبناءها وبيتها خير رعاية, ولا ينقصنى معها أى شيء ويكفينى انها تشعر بما أريد وقبل أن أشير عليها به, وكانت نظرات العيون وحدها أبلغ تعبير عن كل ما نريده.. ولكن ياسيدى حتى هذه النظرات حرمت منها زوجتي, ودخلت مرحلة جديدة من حياتها هى الأقسى على الاطلاق, إذ بدأت تعانى بعض المتاعب فى نظرها وشيئا فشيئا أصبحت كفيفة, فانفصلت تماما عن كل ما حولها.. ولك أن تتخيل حياتها وهى لا تسمع ولا تتكلم ولا ترى شيئا فى الدنيا، وتزامنت هذه المفاجأة القاسية فى حياتنا مع خروجى من الشركة التى كنت أعمل بها, إذ اننى وزملائى لم نعجب صاحبها الجديد, فاستغنى عنا جميعا, ولم أجد حلا لى سوى المعاش المبكر، ولكن كيف نعيش ومبلغ المعاش الضئيل يذهب بكامله الى أطباء العيون أملا فى علاج زوجتي؟ إننى مهما وصفت لك حالنا فلن أستطيع أن أشرح ما نعانيه, فزوجتى تتعامل الآن باللمس والشم, تماما كما كانت تفعل المعجزة هيلين كيلر، وقد تأقلمت على حياتها، وفتح الله علينا فوجدت عملا آخر استقررت فيه، وتسير الحياة بنا على ما يرام، وأردت أن يقرأ محبوك فى كل مكان حكايتى، ويدركوا فعلا العبارة الجميلة التى ترددها دائما أن الأمل موجود ما بقيت الحياة، ولك أرق تحياتى. ولكاتب هذه الرسالة أقول: " إن العمى ليس بشيء, وإن الصمم ليس بشيء, فكلنا فى حقيقة الأمر عمى وصم عن الجلائل الخالدة فى هذا الكون العظيم".. هذه الكلمات الرائعة قالتها هيلين كيلر للأصحاء الذين يتمتعون بكل الحواس لكنهم يفقدون التواصل والاحساس بالآخرين, فبرغم الظروف الصعبة التى عاشتها والتى جعلتها حالة فريدة فى عالم ذوى الاحتياجات الخاصة، فإنها حفرت لنفسها مكانا مميزا فى المجتمع تفوقت به على كثيرين ممن يملكون كل حواسهم, لكنهم لا يستطيعون تحقيق أى شيء فى حياتهم. ولا شك أن زوجتك بكل ما واجهته من متاعب وصعاب قادرة على تحقيق المستحيل بالتأقلم مع ظروفها الجديدة, وتوفير سبل السعادة فى نفسها, فالسعادة لا ترتبط بالحواس كالبصر والسمع والكلام, بقدر ارتباطها بما يدور داخل الانسان، فى قلبه وعقله.. ومن يستطيع ان يفعل ذلك قادر على تجديد حياته باستمرار، فهكذا فعلت هيلين كيلر, وكانت ايامها كلها مختلفة, وتقول فى ذلك عن نفسها: «ليست فى حياتى ساعة تشبه الاخرى حيث اننى بحاسة اللمس أشعر بجميع التغيرات التى تطرأ على الجو, والأيام تختلف عندى بمقدار اختلافها عن الذين ينظرون الى السماء, ولا يبالون بجمالها بل يرصدونها ليعرفوا.. هل تمطر أم لا؟ وفى بعض الأيام تنسكب الشمس فى مكتبى فأشعر بأن مسرات الحياة قد احتشدت فى كل شعاع من أشعتها.. وهناك أيام ينزل فيها المطر, فأشعر كأن ظلا يتعلق بي, وتنتشر رائحة الأرض الرطبة فى كل مكان.. وهناك أيام الصيف المخدرة حين يهب النسيم العليل فيغرينى بالخروج إلى مظلتى حيث أتمدد وأحلم بالزهر يغشاه النحل, وهناك ساعات العجلة والازدحام حين تحتشد الخطابات على منضدتي, ثم ساعات لا نهاية لها تختلف وتتفق مع المفكرين والشعراء, وكيف أنام ما دامت الكتب حولى». أرأيت ياسيدى احساسا لدى الأصحاء بمقدار هذا الإحساس الراقى بالأشياء لدى من حرمت نعم البصر والسمع والكلام؟ فهكذا أرجو أن تكون زوجتك, وهكذا أرجو ان تتفاعل معها فتشعرها بوجودها وبأهميتها فى الحياة, وعلينا دائما ان ننظر الى عظمة الخالق عز وجل وقدرته العالية وحكمته البليغة التى وجدناها من قبل فى هيلين كيلر, ونتمنى ان تكون فى زوجتك الصابرة, فبالمثابرة سوف تغير حياتها ولا تستسلم لليأس والظلام والسكون. وأعود فأسألك: هل تعرف أن معلمة هيلين كيلر التى علمتها الكثير فى حياتها، وهى «آن سيلفان» قد فقدت البصر وهى فى الرابعة عشرة من عمرها، فلم تحزن ولم تجزع, وإنما التحقت بمعهد للمكفوفين، وتعلمت كما تعلم غيرها من فاقدى البصر, وفى الوقت نفسه واصلت سعيها لدى الاطباء, فأجريت لها العديد من العمليات الجراحية فاستعادت بصرها, وكرست حياتها لمساعدة من هم بحاجة اليها, وقد يفسر لنا هذا مقدار الحنان والصبر اللذين تمتعت بهما آن فى معاملتها مع هيلين كيلر حتى تمكنت من العبور بها من فوق حواجز الإعاقة. فإذا كانت آن قد فعلت ذلك, وإذا كانت هيلين قد حققت هذه المعجزة بالسمو فوق الامها.. فإننى أرجو ان تواصل سعيك مع زوجتك لكى تتغلب على أحزانها وتنخرط فى الحياة من جديد بإذن الله.