يقول أهل مصر...إن جوهر الصقلى مؤسس القاهرة المعزية حين وصل بر مصر المحروسة فى جيش كبير وصل عدده إلى مائة ألف جندى، توقف بجيشه عند السهل الرملى المطل على جبل المقطم و خليج أمير المؤمنين - الذى كان يصل النيل بالبحر الأحمر وقيل يصل الفسطاط بالقلزم «السويس» - ولم يكن بهذا السهل وقتها سوى بستان كافور الإخشيدى ودير العظام و حصن قصر الشوك. ويقولون أيضاً إن رحابة المشهد التى تتسع معها حدقات الأعين، فلا تكاد تدرك له أول من آخر, هى ما ألهمه أن يشهد هذا المكان أول تأسيس لمدينة وعاصمة جديدة يحلم بها، فكان تأسيس مدينته القاهرة . ولأنه فى الأصل قائد عسكري، كان أول ما خطط له سور ضخم اللبنات يحمى به مدينته الجديدة, فكان مثار العديد من التساؤلات والتعليقات, حتى إن المقريزى قد توقف عنده بالتعجب والاعجاب. بناء السور بدأ فى نفس ليلة وصول جوهر الصقلى فى السابع عشر من شعبان عام 358 هجريا الموافق السادس من يوليو عام 969ميلادية، ولهذا وجد جوهر, كما ذكر القلقشندى فى صبح الأعشى, تعرجات لم تعجبه, غير انه تركها على حالها، واستمر فى البنيان حتى اكتمل سور القاهرة الأول فى شكل مربع بلغ كل ضلع فيه ألفا ومائتى متر، فسار الضلع الغربى بمحاذاة الخليج، و الشرقى بمحاذاة المقطم, و الجنوبى بمحاذاة الفسطاط، على أن يسير الضلع الشمالى بمحاذاة سهل رملي, فبدت القاهرة فى بدايتها وكأنها مدينة حربية. هكذا -كما يقول العالم الجليل د. عبد الرحمن فهمى - لم يسمح لأى فرد باجتياز أبواب المدينة الا إذا كان من جند الفاطميين أو من كبار موظفى الدولة. وكان الدخول من الثمانية أبواب وفق تصريح خاص. والأبواب الثمانية كما ذكرتها بعض الكتب هى: باب الفتوح وباب النصر فى السور الشمالى ، وباب زويلة فى السور الجنوبى، وباب الفرج وباب البرقية وباب القنطرة وباب القراطين وباب سعادة. وظلت هذه هى أبواب القاهرة حتى استعان الوزير الأرمنى بدر الدين الجمالىفى عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمى بثلاثة أخوة من الأرمن ليشيدوا أسواراً وبوابات خلف تلك التى أقامها جوهر الصقلى لتصبح الأبواب الثلاث الرئيسية هى باب النصر و باب الفتوح وباب زويلة. وليست هذه نهاية القصة، فبعدها سمع أهل القاهرة بأمر السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبى للطواشى بهاء الدين قراقوش الاسدى الرومى ببناء سور حماية لها من الغزوات والأخطار. هذا السور الذى أضيف للقاهرة كان ضرورة, كما وصفه القاضى الفاضل المستشار الأول لصلاح الدين الأيوبى وشبهه بسوار فى معصم امرأة ذات عز و جمال. فالسور هو السوار والمرأة الجميلة هى بلا شك القاهرة . كفاح الشجعان: ولابد من بعد الحكاية حكايات، والزمن لا يتوقف. و داخل أسوار القاهرة, فى الجمالية وحى الحسين, وعند أبوابها, نلتقى بقطز البطل الشجاع. فكما يحكى جمال الدين أبو المحاسن بن تغربردى، استتب الحكم للمماليك بعد ولاية الملك المعز أيبك الصالحى النجمى التركمانى حتى وصل التتار إلى ديار بكر و قتلوا الشيوخ والعجائز وساقوا من النساء والصبيان ما أرادوا فى السنة الثالثة لملكه ، ولم يقف أمرهم عند تلك الجريمة الشنعاء، فبعدها فى السنة السابعة من ولاية أيبك الصالحى يصل هولاكو إلى أذربيجان قاصدا بلاد الشام. لم يحدث شئ فى بر مصر، فقط توفى أيبك ليجلس على العرش ابنه المنصور الذى كان صبيا حديث السن لا يتجاوز الخامسة عشرة فى وقت تقدم فيه هولاكو قائد التتار من جديد للاستيلاء على بغداد ، وقتل الخليفة المستعصم بالله و معظم أهل بغداد. والنتيجة انه بعد ثلاث سنوات من ولاية هذا الابن- الملك المنصور- ينجح هولاكو فى الوصول إلى حلب، فلا يبقى إلا أقل القليل على دخوله القاهرة من أكبر أبوابها. ولهذا لم يكن هناك سبيل سوى عزل المنصور. هذا ما قرره أهل مصر بعد أن جاء الشيخ العز بن عبد السلام والقاضى بدر الدين السنجارى قاضى الديار المصرية إلى دار السلطنة بقلعة الجبل، وتحدثوا مع هذا الصبى عن ضرورة قتال هؤلاء التتار. لم يتحدث الملك الصبى، فهو لا يعرف ما يمكن أن يفعل أو يقال. فما كان من أهل مصر الا ان طالبوا بخلعه وسلطنة المملوك قطز . أما ما حدث فى حلب وقتها فكان كابوسا يشيب له الولدان. فعند وصول التتار، خرج العسكرمن حلب يتبعهم العوام والسوقة، و بحيلة التتار ومكرهم قتلوا كثيرا منهم وغدروا بأهلها، لتصبح بعدها دمشق هى الهدف. لم يستطع الملك الناصر صاحب دمشق المقاومة كثيراً فتوجه إلى مصر، ولكن التتار تعقبوه فاستاء منهم، فتوجه إليهم, فلما وصل بقى عندهم فى ذل وهوان إلى أن قتل. كفاح أهل مصر: و كان يمكن لمصر ان تكون هى الأخرى مثل بغداد وحلب ودمشق وأصفهان، ولكن أهل مصر ومن اجتمع من عساكر المسلمين بالديار المصرية أجمعوا على حفظ بر مصر أرض الأجداد والأمجاد. صحيح أن كثيرا من الخلق ممن جاءوا يحتمون بمصر وأهلها تملكهم الخوف وفروا إلى الغرب, إلا أن قطز, الذى كان قد رأى فى منامه رؤية للرسول صلى الله عليه وسلم بشره فيها بمُلك مصر وهزيمة التتار, لم يكن ليخاف ولا ليجبن حتى أمام جيش جرار لم تر بلاد المسلمين له شبيها. فكان قراره بالذهاب إليهم قبل أن يدخل أى عدو من أبواب المحروسة، فقصد بجيشه غزة ومنها إلى عين جالوت فى يوم الجمعة الأخير فى الخامس والعشرين من شهر رمضان. وأما ما حدث, فكما يقول ابن تغربردى, كان قتالا شديدا لم يُر مثله حتى انكسرت ميسرة المسلمين كسرة شنيعة، فحمل الملك المظفر قطز بنفسه فى طائفة من عساكره حتى تراجعوا، وعظم الحرب وثبت كل الفريقين مع كثرة التتار، و المظفر قطز مع ذلك يشجع أصحابه ويحسِّن إليهم الموت حتى نصر الله الإسلام و أعزه، و انكسر التتار وولوا الأدبار على أقبح وجه بعد أن قتل معظم أعيانهم. ويحكى فيما يحكى الرواة أن قطز كان يحارب على قدميه مترجلا بعد أن قُتل جواده ، فأراد احد جنوده أن يمنحه فرسه فرفض, وعندما علم أحد خواصه بما فعل قال لقطز : لو صادفك المغول كنت رحت وراح الاسلام. فقال قطز : أما أنا فكنت رحت إلى الجنة إن شاء الله تعالى، وأما الإسلام فما كان الله ليضيعه. لم يكن هذا حديثا عابراً، بل نبوءة لم تتأخر. فلم يمر كثير من الوقت حتى قتل قطز عقب مجادلة عقيمة بين من جاءوا يقتسمون الاسلاب. ففى فورة من فورات الغضب قتل بيبرس قائده الذى ظن أنه منع عنه ولن يعطيه. وهكذا مات قطز كبير الشجعان قبل أن يدخل من باب النصر الذى كان يدخل منه الملوك وأصحاب السلطان. فلم يكتب الله تعالى له العودة من الباب الذى كان يستحقه، ومع هذا فقد ظل أهل مصر يتناقلون سيرته ويتذكرونه ويحمدون له ما فعله. أما هو فقد أدى واجبه وثأر لأهله الذين هم ملوك خوارزم الذين أطاح التتار بملكهم وحياتهم. فهو محمود ابن ممدود الذى مثل التتار بأهله فى أول رحلتهم لملك الديار والبلاد. ربما جاز لنا أن نعتبر قطز رغم أصوله التركمانية واحدا من أهل مصر و أبناء القاهرة المعزية. وقطز حين نحكى حكايته ليس وحيدا، ففى الجمالية وحى الحسين مازالت آلاف من حكايات البطولة والإيثار لم تتح لنا الفرصة بعد فى التعرف عليها كاملة. فلكل باب من أبواب القاهرة ولكل حى قصص ربما لا يعرفها سوى أهله ...وقد اخترنا باب النصر لنخرج منه من عالم الحكايات ولنترك المكان, وعسى أن نلتقى على خير, وربما فى نفس المكان من بر مصر المنورة ومن حى ومسجد الإمام الحسين رضى الله عنه, علنا نعود إليه مع حكاية أخرى ورمضان آخر ربما كتبه الله تعالى لنا. وفى النهاية سلام ومسك ختام.