يكثر التساؤل هذه الأيام خاصة بين الناس فى المجتمعات المتخلفة والنامية عن دور الفلسفة وأهميتها خاصة أننا نعيش فيما يقولون عصر العلم ، فلقد استحوذ العلم والتقدم العلمى الذى يحرزه العلم يوميا على اهتمامات الناس وزاد من شغفهم بسرعة تحوله فى أيديهم وداخل بيوتهم وفى كل جوانب حياتهم إلى مخترعات تسهل الحياة وتتغلب على أى مشكلة أو معضلة تواجههم فى هذه الحياة،والحقيقة أن لدى الناس كل الحق فى هذا التساؤل مادامت الفلسفة تبتعد عن معالجة القضايا والمشكلات الحياتية التى يعانون منها. ويزداد الأمر سوءا إذا ما اقتصر الدرس والبحث الفلسفيين فى هذه المجتمعات على عرض القضايا والمشكلات التى اهتم بها الفلاسفة طوال تاريخ الفلسفة دون الاهتمام بابراز الجوانب التطبيقية من الفلسفة ، وهى التى من شأنها أن تكشف بوضوح عن الدور الحيوى للفلسفة فى إصلاح التفكير العقلى والعلمى لهؤلاء الناس ، وكذلك دورها فى معالجة مشكلات السلوك الأخلاقى والسياسى فضلا عن دورها فى ترقية التذوق الفنى وتنمية الحس الجمالى عندهم ، كما أن من شأن الفلاسفة التطبيقيين أيضا لفت أنظار الجميع إلى المخاطر التى تواجههم فى مجال البيئة وجودة الحياة من جراء بعض الأبحاث العلمية الموجهة فى مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية والفضاء المعلوماتى !! والحقيقة أن النظرة المستقبلية واستشراف آفاق المستقبل والعمل وفقا لهذا الاستشراف هو ما ينقصنا فى حياتنا المعاصرة وهو الذى يصنع الفارق بين الأمم المتقدمة والأمم المتخلفة ؛ فالأمم المتقدمة هى التى تتطلع باستمرار إلى المستقبل الأفضل وتضع كل امكاناتها تحت تصرف المستشرفين لآفاقه من الفلاسفة والمفكرين من ذوى النظرة الكلية وتحت تصرف القادرين على صنع التقدم فيه من علماء وتكنولوجيين وأرباب الصناعات . وعلى ذلك فإذا ماأردنا حقا الخروج من نفق التخلف المظلم إلى مبشرات التقدم والنهضة ، فلاسبيل أمامنا إلا باستشراف المستقبل ومعرفة أبعاده وممكناته وكيفية التفاعل الايجابى مع هذه الممكنات وفق امكاناتنا الذاتية وابداعاتنا كأفراد وشعوب قادرين على صنع التقدم لو صدق العزم وخلصت النيات واتحدت الإرادات وسخرت لذلك كل الإمكانات . ولكى نبدأ هذا الطريق باستقلال عن الآخر وعن هيمنته وتسلطه فإن علينا بداية أن نعبد الطريق لنشر فلسفة التنوع والاختلاف التى ستكشف محدودية الفلسفة الغربية من جهة، وتعلن عن حضورنا وحضور فكر وفلسفة العالم الذى يطلقون عليه ظلما وقصورا فى النظر «العالم الثالث» من جهة أخرى . إن فلسفة التنوع والاختلاف هى التى يمكن بها مواجهة تحديات وتحطيم النموذج الغربى المهيمن ، وهى فى ذات الوقت تمثل نقطة الانطلاق لفكر مبدع جديد يعمل بعيدا عن أسوار الفكر الغربى وألياته ومناهجه . إنها باختصار السبيل إلى مقاومة هيمنة الآخر وتحرير الذات ومن ثم تأمل المستقبل واستكشاف أبعاده من منظور الذات ولمصلحتها . وبعيدا عن هذه الفائدة المزدوجة لفلسفة الاختلاف والتنوع فى علاقتنا بالفكر الغربى ، فإن نشر فلسفة التنوع والاختلاف ستكون ذات فائدة قصوى لتجاوز الصراع الدائر الآن بين كل فئات وأطياف المجتمع المصرى والمجتمعات العربية ؛ إذ إن هذا الصراع يكشف عن استقطاب حاد أحادى الجانب يرفض رآى الآخر ويرفض الحوار معه والاستفادة من قدراته الابداعية ،بل يرفض وجوده نفسه . وفى ظنى أن القضاء على هذا الصراع وتجاوزه يمكن إذا ما أدرك الجميع أن الاختلاف والتنوع سنة من سنن الوجود وأنه متجذر فى طبيعة الانسان الأصيلة ؛ فالبشر خلقوا أفرادا ولم يخلقوا قطيعا عليه السمع والطاعة ، خلقوا أحرارا بعقول قادرة على التحليل والرفض والنقد أكثر من قدرتها على التسليم والتقليد والاتباع .ولنتمثل فى ذلك قول مفكرنا الكبير د. حسن حنفى : إن التحدى الرئيسى أمام الفكر العربى المعاصر العابر من الجذور الى الثمار ومن الأمس إلى الغد هو الابداع الذاتى ، القدرة على تجاوز النقل ؛ النقل من التراث القديم أو النقل من تراث الغرب الحديث . لقد آن الأوان لتجاوز النقل إلى التمثل ، ومن التمثل إلى الابداع (الاخراج).إن الطريق إلى المستقبل لن يكون اذن إلا بفتح باب الاجتهاد العقلى من جديد واغلاق باب التقليد كليا ونهائيا سواء التقليد الذى يأخذ من التراث دون وعى ودون غربلة أو التقليد للغرب دون فهم ودون ادراك لاستحالة نقل الفكر من بيئة إلى بيئة أخرى . إن التفكير فى المستقبل اذن يمثل ضرورة حياة بالنسبة لنا لأنه ببساطة هو سبيلنا إلى الخروج من مأزق الأزمات الحاضرة وهو الخطوة الأولى فى طريق الألف ميل لصنع التقدم الذاتى والمشاركة الفاعلة فى الحضارة العالمية المعاصرة، ومن ثم فعلى كل المنظرين والمفكرين خاصة الفلاسفة منهم أن يهتموا كثيرا بتأمل المستقبل والكشف عن ممكناته ومبشراته بالنسبة لنا دون تقليد أو نقل عن الآخرين لأنه على الرغم من ارتباط مستقبلنا بما يجرى لديهم وبما يفكرون فيه ويخططون له ، إلا أن فلسفة التنوع والاختلاف التى تقر بالتفاوت بين البشر فى الرؤى والحاجات لتفاوتهم فى القدرات والممكنات والبيئات تمكننا دائما من التفكير فى المسقبل بشكل جديد ومختلف يمكن به مواجهة التحديات التى يفرضها علينا الأخر ، فضلا عن رسم الطريق الصحيح والمناسب لصنع التقدم المستقل . لمزيد من مقالات د. مصطفي النشار