جلستُ فى المقعد الأول , وماهى إلا دقائق حتى امتلأت الحافلة وتحرك السائق.. توقفت الحافلة مراراً ليركب أحدهم أو تركب إحداهن حتى امتلأ الممر بين صفى الكراسى أيضاً, وحمدتُ الله أننى لست بموقف أحد الواقفين بمثل حالتى وقتها من الإعياء الشديد.. بدأ المطر يهطل, ونظرت خلال النافذة أتابعه بشغفٍ حتى تبللت أفكارى وثقلت فتَرَكَتها روحى لتطير مع أعلى قطرة أراها , و بينما أنا منشغل فى تأملى مررنا أمام أحد المستشفيات فأوقفنا رجل وامرأة و ركبا , لكن لا مكان حتى للوقوف. و رغم ما أنا به من الإعياء لما رأيت أنها حاملٌ ولن تقوَى على الوقوف عرضت عليها أن تجلس مكانى غير عابئ بنظراتِ سخط الواقفين التى غرقتُ بها , لكن زوجها أبى فأصررتُ حتى بدت عليه علامات الانزعاج الحقيقي فاعتذرت وعدت إلى هدوئى.. أنيقة بملابس رخيصة ورغم ذلك جلست على درجة فى مدخل الحافلة بينما وقف هو أمامها ناظراً إلى اللاشيء بقميص بالٍ لا يرقى إلى أن يعتبره الشتاءُ ملبساً , بل إنى تخيلت أن ريح يناير تهزأ به فتشده فترة ثم تتركه, و رغم ذلك فكأن البرد لم يصل إلى جسده النحيف, فلم تدمع عيناه كما تدمع أعيننا من الهواء البارد , قوة حسدته عليها أنا الشاب, فما بالك بهذا العجوز الذى أمسكتُ به متلبساً حين أدرت رأسى إلى اليسار قليلاً فرأيت ابتسامة تحسرٍ فى عينه مراقباً الرجلَ كما أراقبه , واشتد المطر حتى تسللت بعض القطرات إلينا.. الركاب جميعهم بين ضاحكٍ مستمتعٍ وبين عابسٍ منزعج من دعابة المطر , أما أنا فقد كنت مستمتعاً لكن بصمت خشية أن أفسد ما أراه من حبٍ بلغةٍ صامتة .. فقد لاحظت أنها تمسك سرواله بأناملها كأنها تطمئن نفسها عليه , وتضع يدها الأخرى على بطنها وتميل فوقها محاولة أن تدفء نفسها, أو لا أعلم .. ربما تدفئ ابناً لم ير النور ولم يعرف الشعور بالبرد بعد .. بعد حين ربما بعدما أنهى تفكيره - مال بنظره إليها فوجدها على هيئتها من التكور حول نفسها فاستدار من فوره ووقف معطياً ظهره للريح , ممسكاً بحافتى الباب الجانبيتين ,و محاولاً حجب الريح القاسية عنها , بينما اضطربت هي- لتحركه المفاجىء فرفعت عينها التى سرعان ما تحول لون القلق الكئيب بهما إلى ابتسامة حبٍ حزين وخجلٍ بادٍ.. مضت دقائق أخرى و لا يزال الطريق طويلاً , ولا يزال الإعياء موجودا,ً إلا أننى انشغلت عنه بهما , أخيراً انتهى الصمت حين نظرت إليه وقالت بشبه خوف : أكان من الضرورى ذلك؟.. فأجابها بهدوء يخفى اعترافه بصواب رأيها : بلى , كان علينا أن نطمئن .. خفضت رأسها فى سرورٍ أرادت إخفاءه , ثم عادت لتقول بصوتٍ منخفضٍ دون أن تنظر إليه : إنها تقول أن علينا المتابعة معها .. لحظات من الصمت سبقت إجابته : بالطبع , علينا ذلك ..كما تقول علينا أن ننفذ, حتى الولادة بإذن الله.. لكنها قاطعته مؤجلة سعادتها بإجابته لوقت آخر : لا يا مصطفى , سأتوخى الحذر مثلما فعلت أمى وأمك و سأتبع نصائح الدكتورة , ألا تعلم أن هناك برامج على الراديو تستضيف أطباء أحياناً ؟ سأحفظ ما ينصحون به وأعمل به ..و كما تعلم و هزت رأسها فى فخر زوجتك متفوقة فى الحفظ و ذكية أيضاً , لولا الزمن . وابتسمت حتى بدت أسنانها البيضاء مرصوصة كاللؤلؤ , فابتسم هو الآخر وتسللت السعادة والراحة حتى بدت فى عينيه , و لم يعقب على حديثها مكتفياً بإجابتها.. وساد الصمت مجدداً حتى قطعته قائلة : أآت أنت معى؟ فأجاب متحدثاً بسرعة, يود أن يبعث الحماسة فى نفسه : لا , اذهبى انتِ , فلقد اتصل بى محمد ابن »عم فرج« و أخبرنى أن هناك حمولة دقيق عند الحاج على , كما أنه أخبرنى بأنه قد يحتاجنى بعدها فى هدِّ البيت الكبير فى أول البلد .. - يا الله , ألا تعرف من صاحبه؟ فضحك ساخراً وقال : ولمَ الحزن عليه ؟ أكنتِ تحلمين بشرائه؟ ..(فضربته برقة فى رجله معاتبة , فابتسم مكملاً ) ..على الأغلب ملك عزت بيه الذى لم يره البلد مذ بنى مصنعه الثانى .. ما يهمنا هو الجنيهات التى نأخذها من عرقنا , أما الباقى فلنتركه لله .. - ونعم بالله , احذر ولا تجهد نفسك كثيراً - ثم فتحت حقيبتها البسيطة وأخرجت شالاً أعطته له وضع هذا حتى أطمئن فلما أبدى تمنعاً زادت - و لا ترهقنى هكذا قالت الدكتورة .. فأخذه منها مبتسماً ليريحها , ويبدو أنهما كانا قد اقتربا من محطتهما فبدأت تتهيأ للنزول وتغلق حقيبتها , وبينما هى كذلك قالت له : لن نذهب إلى زفاف لبنى اليوم , سأتعلل بأنى مريضة وأنك غير موجودٍ أيضاً .. فنظر لها كأن كلامها لا يعجبه وقال لها : بسبب هدية الزواج؟ .. فسارعت قائلة : لا بالطبع , أية هدية؟ ..أنا بالفعل مريضة , ولولا أنك ذاهبٌ إلى العمل لكنت طلبت منك أن توصلنى .. توقف المطر , و وصلا إلى محطتهما أخيراً , وظللتُ بالحافلةِ , مدهوشاً ,شارداً , وحالماً..