لجنة امتحان.. جو خانق يسوده التوتر. أثناء توزيع ورقة الأسئلة تتعالي الأصوات.. يجب ألا يفلت زمام الأمور من يدي.. لذلك صحت فيهم بالتزام الصمت وهددتهم بسحب ورقة الإجابة، حتى التقت عيناي بعينيها.. التقطت الورقة بلهفة ولم تلتفت إلىّ بعد ذلك! عندها ظللت أحدق فيها لثواني وعدت إلى نفسي وإلى مكاني ولاتزال عيناي متعلقة بها.. همست المرأة التي تشاركني عملية المراقبة ''لجنة بنات.. الحمد لله.. ده إحنا بنعاني من الولاد!'' نظرت إليها نظرة خاطفة وأنا أهز رأسي بالموافقة وسرعان ماعادت عيناي إلى الفتاة! واستطردت في حديثها قائلة: ''أنا مدرسة رياضيات في مدرسة إعدادي بنين وحضرتك؟'' أجبتها - وأنا أبدي انشغالي بمراقبة البنات - ''أنا مدرس إنجليزي في مدرسة ثانوي في شبرا.'' أبدت انزعاجها وهى تقول: ''وجاي من شبرا للمعادي؟!'' أجبتها-وأنا أتمنى لو تصمت-''هى مراقبة الثانوية العامة كده.. أمرنا لله!'' صمتت لفترة.. انشغلت فيها بمتابعة حركات تلك الصغيرة التي سحرتني. تابعت بشغف كل حركاتها وسكناتها، انحناءها على الورقة.. خصلات شعرها التي تنسدل على وجهها فتزيحها برقة خلف أذنيها.. عيناها اللامعتان رغم علامات الإرهاق.. يدها الرقيقة وهى تمسك بالقلم! وهمست بداخلي ''ليتها تلتفت ثانية.. وتلتقي عيوننا.. ربما تلاحظ إعجابي بها!'' واستكملت المرأة حديثها بسؤال أزعجني: ''حضرتك متجوز؟'' فأجبتها: ''لا'' فقالت وهى تدعي الدهشة: ''معقول! ليه حضرتك متجوزتش لغاية دلوقتي؟!'' أجبتها - وقد قررت أن أرضي فضولها.. فربما تصمت وتريحيني: ''بعدما تخرجت اشتغلت علشان أكون نفسي كام سنة.. لقيت الشغل في مصر مش جايب همه وعلشان أجيب شقة ولابعد 20 سنة! وجت فرصة أسافر إعارة.. سافرت، وفضلت بره 15 سنة، ورجعت واديني بادور على عروسة!'' وعادت عيناي تتعلق بالفتاة.. وتعالت أصوات البنات، فصحت باستنكار وقمت وظللت أتمشى في اللجنة وأحاول أن أتخيلها واقفة، ثم حلمت أن نمشي وايدينا متعانقة.. وتخيلتني ألبسها دبلة الخطوبة، ورحت أتأملها وبداخلي تساؤل يجيب عليه جمالها الصامت: كم ستكون رائعة في فستان الزفاف؟!'' وبدأت أفكر كيف سيمكنني محادثتها.. وفكرت في أكثر من طريقة فاشلة ومضى أكثر من نصف الوقت وبدأت الطالبات في تسليم أوراق الإجابة والخروج وقبل انتهاء الوقت بمدة قصيرة. سلمتْ ورقتها وخرجت وكدت أن أُمسك بذراعها.. وكادت عيناي أن تدمع لرحيلها ولكنها لم تلاحظني ولم تلتفت! يالرشاقتها ويالجمالها! لمحت اسمها من على ورقة الإجابة، ذهبت إلى مقعدها وجلست.. عطرها يملأ المكان.. ماهذا؟ سألت نفسي حين وجدت أوراقا صغيرة متناثرة تحت مقعدها! وضحكت لذكائها.. ياللصغيرة الشقية كيف خدعتني؟! كيف لم أدرك أنها تغش؟ يبدو أني انشغلت بجمالها ولم ألحظ مكرها.. وأخرجت من جيبي ورقة وكتبت اسمها وأنا أمني نفسي بالبحث عنها ومعرفة أصلها وفصلها! انتهى الوقت.. جمعت الورق وخرجت مسرعاً باحثاً عنها. ربما وجدتها واقفة تراجع الامتحان مع زميلاتها! وبالفعل كانت هناك معهن واقفة في الجهة المقابلة لباب المدرسة. رأيتها تسمرت في مكاني وسمعت ضحكات زميلاتها، والتفتن ونظرن إلىَّ كأنهن أدركن أمري، وخرجت من إحراجي عندما رأيتها تنفصل عن زميلاتها وتتقدم نحوي، تقدمتْ إلىّ بكل لهفة.. وأنا أفكر في الكلمة المناسبة التي سأبدأ بها حديثي معها، ثم مالبثت أن تجاوزتني حتى رأيت شاباً في العشرين يقف خلفي في انتظارها. تبادلا التحية بلهفة ومشياً سوياً وما كادا يصلان إلى نهاية الشارع حتى رأيت أيديهما تتعانق!! نظرت إلى مكانها كي أستحضر صورتها.. فرأيت صورتي معكوسة علي ''فاترينة'' المحل المواجه للمدرسة واندهشت!! لأول مرة ألمح الشعر الأبيض المتناثر فوق جبيني.. أم أنني رأيته سابقاً ولكني نسيت؟!! كلمتنا - مايو 2001