لا أدري لماذا لا تزال مؤسسات الدولة تسير علي درب مبارك, ولا تري له بديلا وكأن قدر المصرين ألا يقرروا بكامل إرادتهم الواعية والمستقلة ما يحقق لهم مصلحتهم, هذا علي الرغم من أنهم قد دفعوا الثمن غاليا. من أجل هذه الغاية, فانتخابات الرئاسة وهي الحدث الأهم لا تزال تدار بعقلية مبارك ورجاله سواء تعلق الأمر بالمادة28 من الإعلان الدستوري أو بالقرار رقم6 الذي يحظر الدعاية الانتخابية في غير الفترة المصرح بها قانونا ومدتها ثلاثة أسابيع وكالعادة جاءت تبريرات المادة28 من منظور قانوني ضيق الأفق يشير إلي أهمية منصب رئيس الجمهورية بما يوجب تحصين قرار اللجنة ضد الطعن, وكأنه حكم إلهي, فالله وحده الذي يحكم ولا معقب لحكمة, وهو وحده الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون, عليه وجب أن يخضع مثل هذا القرار للطعن خاصة أنه يتعارض مع أحكام عدة صادرة عن المحكمة الإدارية العليا ومع المادة21 من الإعلان الدستوري نفسه والتي تقول يحظر النص في القوانين علي تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء. فالتحصين الفعلي لقرار مهم من هذا النوع يجب أن يكون من قبل الرأي العام بحسبانه السلطة الوحيدة التي تكفل شرعيته, إذ ماذا يجني الرئيس الجديد من تحصين قانوني إذا كانت شرعيته لدي الرأي العام مشكوك فيها, ولذالك كنت وما زلت أود أن يكون التفكير القانوني في اتجاه آخر يقول: لأن منصب رئيس الجمهورية منصب رفيع وجب تحصينه وتأمينه ليكون فوق الشبهات ولذا فإن قرار اللجنة مفتوح للطعن ليستقر الرئيس في مقامه الرفيع بعد اتخاذ كل التدابير القضائية التي تجعل الرأي العام مطمئنا أنه الأكثر استحقاقا للمنصب, وأن العملية الانتخابية كانت حرة ونزيهة ولا تشوبها شائبة هذا الاتجاه المعاكس يحتاج إلي خبرة أوسع من مجرد الخبرة القانونية التي عادة ماتنكفئ علي نفسها متجاهلة أن القانون الجيد هو الذي يستمد قوته من تعبيره عن إرادة الرأي العام, وأن التحصين الحقيقي لا يستمد من النصوص أيا كانت دستوريتها ولكن من الرضا العام الذي ينشئ النصوص ويغيرها,فمبارك حتي25 يناير كان رئيسا للبلاد وفقا للدستور لكنه زال إلي الأبد لأنه ودستوره لم يكن شرعيا في محكمة الرأي العام,وهذا هو بالضبط مآل المادة28 فهي بنصها وروحها لا تعكس سوي منطق حكم الدكتاتور الذي يجتهد في وضع نفسه في غلاف محكم وصندوق أسود بعيدا عن أعين المواطنين ورقابة القضاء بما يدفع إلي اتساع الفجوة بينه وبين شعبه يوما بعد يوم حتي ولو كان هو الأجدر والأكفأ والأكثر استحقاقا للمنصب من منظور القانون. أما المأزق الثاني فيرتبط بالقرار رقم6 القاضي بحظر الدعاية الانتخابية إلا في غضون ثلاثة أسابيع, وللأسف تعود أصوله إلي القرارات المنظمة لحملة انتخابات الرئاسة في عام2005 وكأن الثورة لم تقع,وكأن العقل القانوني ليس أمامه من مصدر ملهم لتنظيم الانتخابات سوي فكر مبارك ورجاله الأشداء, فالمعلومات لا تقل أهمية في بناء الديمقراطية عن أهمية الأكسجين للإنسان,ولهذا تحرص الدول التي تعرف للإنسان حقوقه علي أن يحصل علي المعلومات كما يتنفس الأكسجين,فجودة الحياة وجودة القرار ومكافحة الفساد مرتبط بحجم ونوع المعلومات المتاحة في الفضاء العام,والقاعدةالذهبيةالتي تحكم سوق المعلومات هي أن الحكمة والنزاهة في الاختيار ليستا إلا نتاجا طبيعيا لوفرة المعلومات وجودتها بشأن البدائل المتاحة, قرار حظر النشر يصطدم بكل المواثيق والمعاهدات الدولية المعنية بأمرين الأول حرية التعبير والثاني حق المعرفة,وما جاء الأول إلا لضمان الثاني فالمرشحون مكفول لهم حرية التعبير كاملة عبر كل الوسائل الممكنة المقروءة والمسموعة والمرئية التقليدية منها والجديدة سواء تم التواصل عبر وسيط إعلامي أو بشكل مباشر وذالك لإشباع حق أصيل من حقوق الإنسان لا تقوم للدنيا قائمة بدونه وهو حق المعرفة, ولقدره وعظمته عند الخالق نزلت أولي آيات القرآن الكريم لتنص عليه صراحةاقرأ ليعرف الإنسان ويقرر وهو حر ونزيه وليميز بين الصالح والطالح, وبين من يعود بالثورة إلي الوراء ومن يدفع بها في الاتجاه الصحيح. إن أسوأ ما في هذا الحظر أنه ينبئ بكارثة الإتيان برئيس جمهورية جديد لا يعرفه المواطن فهل هذا ماتريده وما تسعي إليه متعمدة لجنة انتخابات الرئاسة, وماذا يضير اللجنة أن تمتد فترة الدعاية الانتخابية من الآن وحتي يوم الاقتراع لتتاح الفرصة كاملة لإجراء المناظرات والحوارات بين المرشحين كافة, ولإشباع نهم المواطن في معرفة أدق التفاصيل عن المرشح, وهل يمكن في ظل ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال مراقبة الدعاية الانتخابية؟ وهل يمكن الوصول لأمة أغلب نسائها من الأميين وثلث رجالها لا يقرأون ولا يكتبون في غضون ثلاثة أسابيع,وهم في أمس الحاجة للتواصل وجها لوجه مع المرشح وعبر شاشات التليفزيون حتي تتكون لديهم عقيدة حرة وحصيلة معرفية تمكنهم من حسن الاختيار في ظل تعدد المرشحين الذين يتكاثرون يوما بعد يوم ولا نكاد نعرف عنهم شيئا, لماذا نصدر من القرارات ما يستحيل تنفيذه ومراقبته في أرض الواقع؟ هل لدي اللجنة تعريف جامع ما نع للدعاية الانتخابية؟ وهل نحبذ سياسة التعتيم والصمت الإعلامي علي حساب حرية التعبير والحق في المعرفة؟ وهل نضع انتخابات الرئاسة في مأزق عدم الشرعية؟. أستاذ بكلية الإعلام جامعة القاهرة