يعتبر العراق في تقديري الرقم الأصعب في مجمل المعادلات السياسية والاستراتيجية التي شهدتها وما تزال تشهدها منطقتنا العربية والشرق اوسطية خلال السنوات الاولي من القرن الحادي والعشرين. . فالعراق هو الحالة الاولي التي تم فيها تجريب التغيير السياسي الجذري منذ عام2003 باسقاط النظام الشمولي السابق واجتثاث رموزه وأركانه, وتم فيها فتح الباب لتعددية سياسية واسعة ولطموحات فئوية وطائفية وجهوية, وظهرت فيها حصائل التغيير النافعة وأعطاله وأخطاؤه, وهو ما تشهده الآن بدرجات متفاوته بلاد عربية اخري طالتها رياح التغيير منذ بدايات عام2011 دون ان تتعظ بالخبرة العراقية. والعراق من ناحية اخري يقع في منطقة جوار لصيق مع أكبر قوتين اقليميتين, لكل منهما تاريخ صراعي وتنافسي طويل مع الامة العربية, ولهما ايضا تطلعات واضحة للقيام بأدوار جديدة في منطقة الشرق الاوسط. وإلي جانب ذالك فإن حدود العراق المشتركة مع أطراف عربية اخري تجعل منه منبعا ومصبا في نفس الوقت لكل انواع التناقل الحميد والخبيث عبر تلك الحدود. والعراق ثالثا يمتلك من القدرات الاقتصادية والبشرية ما يستطيع به أن يسهم في حل كثير من مشكلات الغذاء والمياه والطاقة والبطالة في بلادنا العربية والاسلامية, لكنه مكبل بالعديد من القيود والالتزامات التي فرضت عليه بفعل ميراث النظام السابق وبتأثير من علاقته الاستراتيجية المستجدة مع بعض القوي الكبري. وحين تقرر عقد القمة العربية في بغداد بعد عامين من التردد والمماطلة.. تزاحمت في ذهني عدة تساؤلات يتعلق اولها بما يمكن ان يقدمه العراق إلي هذه القمة من مادة جديدة وأسلوب جديد في ادارة العمل العربي المشترك. ورحت أتخيل عناصر لمشروع الرئيس العراقي في جلسة الافتتاح يعرض فيها علي اخوانه الملوك والرؤساء الجدد والقدامي ملامح التجربة العراقية في التغيير بما لها وما عليها, وينقل فيها نصائحه الي بلدان الربيع العربي بما يلزم من خطوات وإجراءات تحقق لهم التغيير الديمقراطي المنشود بأقل خسائر ممكنة. ورحت أتخيل السيد جلال طلباني وهو يعرض استعداد بلاده للقيام بدور مبتكر في تسوية الازمة السورية المتفاقمة, وفي التهيئة لاقامة حوار عربي ايراني يستهدف تخفيف الاحتقان وازالة أسباب المخاوف في العلاقات, وخاصة مع دول الخليج. وتخيلته ايضا وهو يعرض علي القمة منهجية مقترحة لادارة العلاقات الاثنية والثقافية والطائفية داخل فرادي البلدان العربية, واشتعل خيالي جموحا نحو آلية عربية جديدة تنشأ في إطار الجامعة العربية لمتابعة تنفيذ هذه المنهجية المقترحة ورصد مايستجد من بؤر قابلة للانفجار في اي موقع عربي رصدا مبكرا. واستوقفتني بعد ذلك تساؤلات اخري تبدو متناقضة مع واعدية التصورات الاولي: تري هل فرغ العراق من مشكلاته الداخلية والخارجية الملحة وأصبح قادرا علي نصح الآخرين وقيادة مسيرة العمل العربي المشترك واستحقاقاتها المنتظرة خلال عام رئاسته للقمة؟ وهل يعني تنحية البند السنوي المتكرر والخاص( بتطورات الأوضاع في العراق) من جدول أعمال قمة بغداد أن العراق لم يعد بحاجة الي مساندة او نصيحة من إخوانه العرب؟ وهل اصبح الجيش العراقي بعد خروج القوات الأمريكية قادرا علي تأمين حدوده وأرضه وسمائه ومياهه من تسلل الارهابيين ومن بعض الاختراقات التي تحدث بين حين وآخر لحدوده الشمالية؟ وكيف يستطيع العراق في ظل ارتباطاته الاستراتيجية الجديدة وفي ضوء موجات التشدد الشعبي التي تشهدها بلدان الربيع العربي ان يتصدي بالجرأة الكافية لممارسات إسرائيل العدوانية في غزة والضفة والقدس, وان يقود تحرك الجامعة العربية خلال العام المقبل من أجل تحرير الاراضي المحتلة واقامة الدولة الفلسطينية؟ ورغم المسافة غير الهينة بين التصورات الاولي والتساؤلات الاخيرة الا ان الدبلوماسية العراقية الجديدة التي تعكس حضارة التنوع وتنوع الثقافة يمكنها بإذن الله تجسير هذه الفجوة في اثناء القمة وبعدها, ليس باصتناع صورة وردية غير حقيقية للعراق وامكانياته, وانما باستخدام اسلوب المكاشفة والمصارحة والمنهجية البراجماتية التي تميز بين الواقع والممكن والمستحيل. ولذلك فقد تكون قمة بغداد المقبلة والظروف غير العادية التي تنعقد في ظلها بداية لمرحلة نوعية جديدة من العمل العربي المشترك. رئيس بعثة الجامعة العربية في العراق( سابقا) المزيد من مقالات السفير/هانى خلاف