الحديث عن الدين العام والديون السيادية, بالإضافة إلي رصيدنا من احتياطي العملات الأجنبية, يؤدي إلي حلقات متتالية من الجدل ودوائر متداخلة من المخاوف والقلق, وهذا أمر طبيعي في ظل الظروف الراهنة التي يجتازها الاقتصاد المصري في المرحلة الانتقالية من قبل وما بعد ثورة52 يناير, وما ارتبط بها من مطالب اجتماعية ذات أعباء اقتصادية. كما أنه من الأمور الطبيعية والمسلم بها, أن يتم التركيز علي أهمية الإنتاج ودفع العمل في مختلف قطاعات الاقتصاد القومي, حتي يرتفع معدل النمو وتستعيد الصادرات حيويتها والقطاع السياحي نشاطه, نظرا للعلاقة التبادلية بين الشق الأول ونظيره الثاني. ويرتبط بهذا وذاك, الحديث عن تخفيض التصنيف الائتماني لمصر, وما يعنيه من ارتفاع تكلفة الاقتراض من الخارج, وبالتالي كان طرح الاقتراض من مؤسسات التمويل الدولية, في ظل انكماش الاستثمارات الأجنبية المباشرة, وارتفاع تكلفة الاقتراض من أسواق المال العالمية, مع الأخذ في الاعتبار دور المساعدات العربية والأجنبية, والصيغ المختلفة التي طرحت للتخفيف من العبء المالي الملقي علي عاتق الخزانة العامة المصرية في مجال سداد الديون السيادية أو تمويل المطالب الجماهيرية, مع الاضطلاع بمشروعات كفيلة باستيعاب أعداد متزايدة من الأيدي العاملة المعطلة عن العمل. ذلك هو الواقع الذي نعيشه ونسعي إلي الخروج عنه وكسر الحلقة المفرغة للقضايا المتشابكة الناجمة عنه, وهذا يقتضي منا عدم حصر الذات في اجترار القضايا الداخلية, والنظر إليها من منظور ما تواجهه الدول من قضايا وأزمات. كما أنه في الوقت نفسه يمثل عاملا محددا لموقفنا تجاه مؤسسات التمويل الدولية, وماذا يتعين أن تكون سياستها تجاهنا, في ظل الواقع الذي فرضته الثورة, وما صدر عن هذه المؤسسات والدول الداعمة لها من تصريحات يؤكد أهمية البعد الاجتماعي في عملية النمو الاقتصادي والتصدي لظاهرتي الفقر وفجوة الدخول, وهي العوامل الرئيسية المفجرة لثورة52 يناير. النقطة الأولي التي يتعين التركيز عليها تنصرف إلي الدين العام والديون السيادية, ومع التسليم بأن نسبة الأول والثاني قد تزايدت علي المعدلات السابقة, بينما انكمش الاحتياطي من العملات الأجنبية من63 مليار دولار في نهاية عام0102 إلي82 مليار دولار, وارتفع عجز الموازنة من3.4% مقابل إجمالي الناتج المحلي إلي5.01% في ذات الفترات المقارنة, كما تزايد الدين العام المحلي. إلا أن هذه النسب المقلقة والانكماش الحادث, يعد نتيجة شرعية ومنطقية في ظل الظروف والأحداث التي أحاطت بالأوضاع السياسية والاقتصادية بعد أحداث52 يناير, خاصة إذا أخذنا في الاعتبار نسب العجز المالي ومعدلات البطالة التي تخنق العديد من دول العالم الصناعية المتقدمة. ثانيا: إن الأزمات المالية والاقتصادية الخانقة التي أحاطت بهذه الدول الصناعية المتقدمة ويضاف إليها أيرلندا, لم تكن نتيجة ثورة سياسية ذات أهداف اجتماعية واقتصادية, أو نقطة تحول فارقة في تاريخ شعب, بل إنها نتيجة لتزييف وتلاعب في الأرقام, وهو ما شهدته مصر قبل هذه الثورة وكان سيؤدي بالضرورة إلي نتائج سلبية مشابهة, إن لم تكن أكثر سوءا. ثالثا: بالنسبة لتخفيض التصنيف الائتماني لمصر من قبل مؤسسات تقييم الجدارة الائتمانية العالمية, لاشك أنه أمر غير مستحب علي الصعيد الاقتصادي وفي دوائر المال والسياسة علي حد سواء. ولكن ألا يجب بنا التمعن في دلالات التهديدات التي وجهت لكل من الولاياتالمتحدة وبريطانيا بالنسبة للتصنيف الائتماني لها, ومن ثم يكون لهذا الإجراء الخاص بالتخفيض قيمته النفسية المحدودة, مقارنة بالآخرين في ظل التحول السياسي الفارق الذي حدث علي الساحة المصرية. رابعا: تزايد المطالب الفئوية, لم تكن وليدة ثورة52 يناير وحدها, بل كانت نتيجة لتطور لحق بالحركات النقابية والعمالية في العالم أجمع فقد ثبت بالأرقام انكماش أعداد عمالة القطاع الخاص المنضمة إلي نقابات في غضون ثلاثة عقود. وعلي النقيض من ذلك, كان وعي العاملين في الحكومات والقطاع العام, حيث ارتفعت نسبة العضوية النقابية وتزايدت معها المطالب, لتصبح هذه العمالة مجموعة من جماعات المصالح ذات التأثير القوي والفعال في مواجهة الحكومات. ومن هنا نجد أن ما يحدث علي أرض الواقع في مصر, وإن بدا مشهدا غريبا في توقيته, إلا أنه امتداد لأوضاع دولية, وترجمة لمطالب تبحث عن متنفس لها علي صعيد الشعوب, وإن تفاوتت درجات الاستقرار والحياة السياسية والاقتصادية. خامسا: الحديث عن ارتفاع الأسعار وانفلات التضخم أمر يعاني منه المواطن المصري, خاصة في فترة ما بعد ثورة يناير, وهو ما نطلق عليه بالركود التضخمي, ظاهرة عالمية, ويكون التساؤل هو كيفية الإفلات من هذه الآفة وكسر حلقاتها المفرغة من خلال السياسات المالية والنقدية؟ سادسا: بالانتقال إلي الاقتراض من صندوق النقد الدولي, وهل يعني فتح باب المشروطية من جانب المؤسسات المالية الدولية, والتخوف من تكرار الروشتة التقليدية من سياسات تقشفية؟ لابد أن نشير إلي أن ظروفا ملحة تقتضي الحفاظ علي استقرار الاقتصاد الكلي وتوفير فرص عمل جديدة, ويأتي اتساقا مع الاتجاه العام المؤيد لثورة52 يناير علي صعيد المؤسسات المالية الدولية والدول الرئيسية الأعضاء فيها, وكذلك علي مستوي التجمعات الاقتصادية مثل مجموعة الثماني والاتحاد الأوروبي. الأهم وما يجب التركيز عليه, هو استمرار قوة الدفع وتأكيد الشرعية للمطالب المصرية في تلك الدوائر المتعددة, مع وضوح الرؤية وتحديد المواقف بصورة تفصيلية, فإذا كان مدير إدارة الشرق الأوسط ووسط آسيا في الصندوق, قد أشار إلي أن الدروس المستفادة من أحداث الشرق الأوسط, تؤكد أهمية تركيز الحكومات المعنية علي النمو وتوجيه المزيد من المساعدة للأسر الفقيرة, فهذا يعني من باب أولي عدم الإسراف في مشروطية قروض الصندوق, ووضوح أكبر في تفصيلات مبلغ ال53 مليار دولار التي أعلن عن تخصيصها للمنطقة في الأعوام المقبلة, وهل ستأتي في إطار مقترحات الثماني الكبار, أم بصورة منفصلة؟! وإذا كان صندوق النقد الدولي بصدد تقديم قرض جديد لروسيا البيضاء, وسبق أن قدم لها مساعدات وتسهيلات مالية سبقت الانتخابات الرئاسية في عام0102, تحت شعار دعم الديمقراطية في مواجهة التطلعات الروسية, فإنه ومن باب أولي, يكون للثورة المصرية حقها الطبيعي في المساندة والدعم إذا صدقت النيات من جانب الأطراف الخارجية. وإذا كانت التصريحات قد توالت وبعض الاتفاقيات قد تم توقيعها بين الحكومة المصرية وحكومات أجنبية فيما يتعلق بكيفية التعامل والديون السيادية المستحقة للأخيرة واستبدالها من خلال مشروعات استثمارية, أو تقديم مساعدات عربية في صورة استثمارات, فإن جميع هذه الصيغ لا تضفي ظلالا أو حساسية علي الموقف المصري, حيث إن دروس التاريخ تدعمه, ابتداء من مشروع مارشال عقب الحرب العالمية الثانية, والتجربة الأوروبية بعد انهيار حائط برلين, فيما يتعلق بدول شرق ووسط أوروبا. وأخيرا الجهود الأوروبية المحمومة لإنقاذ منطقة اليورو, فالديمقراطية تقتضي بيئة اقتصادية, وعدالة اجتماعية, وهو الشعار الذي ترفعه الديمقراطيات الغربية, كما أن قوة واستقرار مصر شرط لا يمكن إلغاؤه بالنسبة للاستقرار المتكامل في منطقة الشرق الأوسط.