يتردد فى خطابنا السياسى هذه الأيام الدعوة للتفكير خارج الصندوق، أو بعبارة أخرى البحث عن التفكير فى حلول ابتكارى غير تقليدية لما يواجه بلادنا من مشكلات، وقد شغلت قضية التفكير الابتكارية عقول علماء النفس منذ زمن بعيد، ويعد الحديث عن التفكير حديثًا علميًا مشكلة فى حد ذاته فالتفكير نشاط إنسانى شأنه شأن الحركة والكلام والنوم إلى آخره, لكنه يختلف عن كل الأنشطة الإنسانية فى كونه نشاطًا غير مرئي. بمعنى أنه لا يمكن إدراك عملية التفكير لدى الآخرين إدراكا مباشرًا عن طريق الحواس، بل إن التفكير لا يتعدى أن يكون خبرة ذاتية يعيشها الفرد مباشرة وداخل نفسه وبالتالى فإن إخضاعه للبحث العلمى المضبوط لم يكن بالأمر الميسور.تعددت الطرق العلمية المستخدمة فى جمع المعلومات المتعلقة بالتفكير، وشملت تلك الطرق التجربة، والبيانات الإكلينيكية، والمسح الاجتماعي، والاختبارات النفسية، والاستبطان وغير ذلك. ونظرًا لأن التفكير بطبيعته لا يمكن دراسته بشكل مباشر، فقد انصبت تلك الطرق على دراسة التفكير كما يبدو لنا فى موقف محدد مضبوط، هو موقف مواجهة الكائن الحى لمشكلة تتطلب حلاً, لذلك فإن التعريف السائد للتفكير هو أنه ذلك الذى يحدث فى الخبرة حين يواجه الكائن البشرى أو الحيوانى مشكلة فيتعرف عليها ويحلها.ولقد اتخذت الدراسات التى تعرضت للتفكير طريقًا واحدًا، هو ملاحظة الخطوات التى يتم خلالها الوصول إلى حل لمشكلة تعترض طريق الكائن، بافتراض أن تلك الخطوات تمثل مراحل التفكير فى ذلك الموقف وقد شملت تجارب التفكير هذه كل أنواع الحيوانات تقريبًا، الفئران، والقطط، والدجاج ، حتى الأسماك. أما مجال دراسة التفكير لدى الإنسان عند تعرضه لحل مشكلة ما فقد كان مجالاً أكثر اتساعًا من حيث ثراء المادة، وإن كان أكثر صعوبة من حيث الدراسة. وقد اعتمدت الدراسة فى هذا المجال أساسًا على أسلوب الاستبطان المباشر بأن يفكر الفرد بصوت عال فى أثناء حله لمشكلة معينة ومن أهم ما لاحظه العلماء الرواد فى هذا الصدد أن الكثير من الأفراد يصلون إلى الحل فجأة دون تفكير مسلسل، ثم بعد ذلك يحاولون عن طريق الاسترجاع تحليل الطريقة التى توصلوا من خلالها إلى الحل. كما لوحظ أيضًا أن ذلك الوصول الفجائى للحل لا يكون وصولاً للتفاصيل بل وصولاً للمبدأ العام أو النقطة الحرجة التى تنبعث منها وتليها خطوات الحل التفصيلية. خلاصة القول إذن أن حل أى مشكلة يعتمد على إعادة تنظيم العلاقات البنائية والوظيفية للموقف الكلى وبالتالى فإنه ليس تطبيقًا أوتوماتيكيًا لعادات ثابتة سبق اكتسابها وتعلمها فى موقف محدد أسبق و إلا لما كانت هناك مشكلة تتطلب حلاً وتفكيرًا. و السؤال هو: ترى هل يتدرب الإنسان على التفكير؟ أم أنه يولد قادرًا عليه؟ وهل ثمة قدرات خاصة يتميز بها المبدعون فكريًا يفتقدها غيرهم؟ أم أننا جميعًا لدينا قدر يزيد أو يقل من القدرة على الإبداع؟ لو تصورنا فردًا - أى فرد فى موقف حرج، أى يتضمن مشكلة تتطلب حلاً، وان الحلول التى سبق أن تدرب عليها الفرد فى مواقف مشابهة لا تسعفه فى حل الموقف الحالي، فإن صاحبنا سوف يلجأ بالضرورة إلى التفكير فى حلول مبتكرة. قد ينجح أو يفشل ولكنه غالبًا سيحاول وذلك يعنى أمرين : أولا: اننا جميعًا لدينا قدر ما من إمكان الابتكار وإن تفاوت هذا القدر من شخص لآخر. ثانيًا: أن هذه الإمكانية الابتكارية لا تظهر لدى غالبية البشر إلا إذا واجهوا مشكلة لا تصلح لها الحلول التقليدية. ولكن هل يعنى هذا أن غالبية البشر مبدعون بالمعنى العلمى الدقيق؟ إن الأمر ليس كذلك تمامًا. فالمبدع - فيما نرى - ليس هو ذلك الذى تضطره الظروف اضطرارًا لابتكار الحلول، ولكنه ذلك الذى يكتشف سبلاً جديدة أيسر و أوفر لحل مشكلة تنجح الطرق التقليدية فى حلها ولكن بعناء أشد وبتكلفة أكبر. ولعلنا نتساءل ترى ولماذا لا يكون البشر جميعًا مبدعين بهذا المعني، مادام إبداعهم سيتيح لهم سبلاً أيسر لحل مشكلاتهم؟ بعبارة أخرى هل من تفسير لاستمرار البشر فى إتباع الأساليب التقليدية غير الابتكارية فى حل مشكلاتهم رغم ما يتكلفونه من عناء؟ الإجابة هى أنه الخوف من الابتكار. فالتفكير الابتكارى يعنى الاختلاف، يعنى الخروج عن النمط المألوف. وكلها أمور قامت الحضارة فى أغلب المجتمعات على رفضها والتخويف منها؛ فالتنشئة الاجتماعية تقوم عادة على التحذير من الخطأ وعقاب المخطئ. وليس من محك اجتماعى يميز بين الخطأ والصواب إلا اتفاق رأى الجماعة. ومن هنا فإن عمليات التنشئة الاجتماعية تقوم غالبًا على تدعيم أنماط التفكير المألوفة، وعقاب من يحاول الخروج عليها. بعبارة أخرى فإننا عادة ندرب أطفالنا - كما تدربنا نحن - على قمع نزعات التفكير الابتكارى لديهم، ونتبع لتحقيق ذلك كل أساليب الثواب والعقاب. فالطفل المتلقي، الصامت، المنفذ، قليل الأسئلة، المقتنع دائمًا بما يقدم إليه من إجابات، هو طفلنا المفضل المطيع المهذب المؤدب. أما الطفل المتسائل، غير المقتنع، التلقائي، فهو غالبًا طفلنا المشاكس المتمرد الذى يحتاج إلى تقويم. خلاصة القول إننا نرسخ لدى أطفالنا أن التفكير الابتكارى مخاطرة غير مضمونة النتائج فى حين أن التفكير التقليدى طريق مضمون آمن. لمزيد من مقالات د. قدري حفني