لعل أحدا لا يختلف علي حقيقة أن بلادنا تمر بمرحلة لم تشهدها من قبل, و مهما اختلفنا علي إيجابية أو سلبية ما نشهده, فمما لا جدال فيه أنه جديد بكل ما تعنيه الكلمة. من اهتمام غير مسبوق بالسياسة, إلي جرأة قد تصل إلي حد الاجتراء علي ما كان يعتبر التفكير فيه مغامرة غير محسوبة, إلي أضواء كاشفة مبهرة تبدو كما لو كانت تغطي مسرح الأحداث جميعا متناقضة_ أو لعلها متناغمة مع ظلام دامس و غموض كثيف يكتنف ما يجري خلف المسرح بين صناع القرار, إلي وجهات نظر متضاربة حول تقييم ما كان و ما يجري فضلا عن توقع مسار الأحداث في المستقبل. إننا جميعا في ظل ما يحيط بنا من متغيرات جديدة متلاحقة نمارس التفكير, و نصل إلي قرارات; و لعل غالبيتنا العظمي راضية عن تفكيرها غاية الرضي مقتنعة بقراراتها كأفضل ما يكون الاقتناع لا يداخلها بشأنها أدني شك. و لعل ذلك يجسد القول الشائع عن إن المرء قد يرغب في تغيير ملامحه أو لون بشرته أو حتي محل مولده و لكنه أبدا لن يقبل طوعا بتغيير تفكيره. و لقد شغلت قضية اتخاذ الإنسان لقراراته في ظل ظروف لم يعايشها من قبل اهتمام العديد من المتخصصين في علم النفس السياسي, خاصة المتخصصين منهم في سيكلوجية التفكير و اتخاذ القرارات. لو تصورنا فردا أي فرد في موقف جديد, أي يتضمن مشكلة تتطلب حلا, وان الحلول التي سبق أن مارسها في مواقف مشابهة لا تسعفه في حل الموقف الحالي, فإن عليه أن يلجأ إلي التفكير في حلول مبتكرة. ولعلنا نتساءل تري ولماذا لا نقدم جميعا و من البداية علي ممارسة ذلك التفكير الإبتكاري, مادام سيتيح لنا سبلا أيسر لحل مشكلاتنا؟ إنه الخوف من الابتكار. فالتفكير الابتكاري يعني الاختلاف, و الخروج عن النمط المألوف المعتاد, و المغامرة بتجربة جديدة غير مضمونة, وكلها أمور قامت التنشئة الاجتماعية في بلادنا علي رفضها والتخويف منها; و التحذير من المحاولة و الخطأ و تغليظ العقاب لمن يقدم علي ذلك. كانت عمليات التنشئة الاجتماعية في بلادنا تقوم علي تدعيم أنماط التفكير التقليدية القائمة علي التلقين, وعقاب من يحاول الخروج عليها. بعبارة أخري فإننا كنا عادة ندرب أطفالنا- كما تدربنا نحن- علي قمع نزعات التفكير الابتكاري لديهم, ونتبع لتحقيق ذلك جميع أساليب الثواب والعقاب. فالطفل المتلقي, الصامت, المنفذ, قليل الأسئلة, المقتنع دائما بما يقدم إليه من إجابات, هو طفلنا المفضل المطيع المهذب المؤدب. أما الطفل المتسائل, غير المقتنع, التلقائي, فهو غالبا طفلنا المشاكس المتمرد الذي يحتاج إلي تقويم. خلاصة القول إننا نرسخ لدي أطفالنا أن التفكير الابتكاري مخاطرة غير مضمونة النتائج في حين أن التفكير التقليدي طريق مضمون آمن. و لسنا في حاجة لسرد أمثلة لمن طالتهم العقوبات الثقيلة ثمنا لاختلافهم مع ما هو سائد فكرا أو ممارسة. وعلي الرغم من رسوخ ثقافتنا التقليدية القديمة فقد أفلت من إسارها شباب أتيحت لهم فرصة الاحتكاك بالعالم الحديث و التفاعل مع أدوات الاتصال المبتكرة, فاندفعوا في محاولة ابتكارية لتغيير عالمنا دون أن يتوقفوا طويلا في محاولة فهمه فكانوا بمثابة القاطرة التي تحاول أن تحرك جبالا من التفكير التقليدي الذي يقدس التكرارية و يجد صعوبة في إدراك الجديد, و يستبعد البدائل, و يميل إلي الأحكام العامة المطلقة, و يحكم علي الحاضر بل والمستقبل بمعايير الماضي الذي ألفه و اطمأن إليه وغني عن البيان أن التفكير الابتكاري يقوم علي النقيض من ذلك كله; فالتكرارية بالنسبة للتفكير الابتكاري لا تعني الكثير, بل علي العكس فإن الفرد الابتكاري لا يكاد يري شيئا مكررا, حيث يقوم التفكير الابتكاري علي إدراك الفروق الكمية البسيطة, ويتمرد علي التعميمات المطلقة مؤكدا فكرة البدائل. و غني عن البيان أننا أصبحنا جميعا مطالبين بأن نتدرب علي مهارات التفكير الابتكاري الذي يكاد أن يصبح رغم قسوته ضرورة حياة في ظل طبيعة الواقع الذي نعيشه في المرحلة الراهنة. و يتطلب ذلك التدريب الالتزام بعدد من القواعد لعل أهمها: أولا: محاولة فتح الباب علي مصراعيه لتقبل البدائل, بمعني التأكيد دائما أن الواقع ليس هو الممكن الوحيد, و أن الواقع القائم ليس سوي أحد الاحتمالات العديدة اللانهائية الممكنة. ثانيا: أن العالم متغير دوما وأن الثبات نسبي تماما. بعبارة أخري فإنه لا يوجد شيئين أو أمرين أو لحظتان متطابقتان تماما, و أن إدراك الفروق لا يقل أهمية عن إدراك أوجه التشابه, و أنه ينبغي إدراك العالم في كل لحظة باعتباره عالما جديدا يستحق إعادة التفكير. ثالثا: إن خطأ المحاولة ليس نهاية الطريق, بل إنه في حد ذاته يمثل متعة حقيقية. بعبارة أخري فإنه إذا كان المفكر التقليدي يخشي أكثر ما يخشي الخطأ, فإن المبدع يستمتع بالمحاولة الجديدة ولا يكف عنها ولا يدفعه خطأ النتيجة إلا إلي تعديل المحاولة والعودة من جديد. تري هل يمكن الاستفادة من ذلك النهج الفكري في أن ندرك أن المجلس الأعلي للقوات المسلحة2011 يختلف رغم التشابه- عن مجلس قيادة الثورة1952, و أن جماعة الإخوان المسلمين عام1928 تختلف رغم التشابه عنها في2012, و أن هناك تشابه و اختلافا بين ما جري في مصر خلال عام1919, و1952, و2011 ؟ المزيد من مقالات د. قدري حفني