فى السياسة لا يوجد صديق دائم ولا عدو دائم، فقط توجد مصالح دائمة، عبارة قالها ونستون تشيرشل واستحضرها من تابع الأحداث التى جرت فى بنجلاديش فى الآونة الأخيرة، فقبل 20 عاما تحالفت رئيسة وزراء بنجلاديش الحالية الشيخة حسينة واجد مع زعيمة المعارضة الشيخة خالدة ضياء للقضاء على الديكتاتورية التى كانت قائمة آنذاك، وهو الوضع الذى انقلب بعد كل السنوات ليتحول التحالف إلى خصومة شرسة وضعت البلاد اليوم على شفير الهاوية بشكل عرضها للتصدع، لتصبح بنجلاديش لعبة فى يد امرأتين. فمنذ أيام حلت ذكرى الانتخابات العامة التى جرت فى البلاد، والتى كانت نتائجها محسومة سلفا لحسينة واجد نتيجة لمقاطعة المعارضة لها وعلى رأسهاخالدة ضياء زعيمة حزب "عوامى" ، كانت البلاد قد شهدت يوم الانتخابات تصعيدا للعنف بالتزامن مع دعوات المعارضة لإضراب شامل لمدة 48 ساعة احتجاجا على عمليات القمع الدموى للمتظاهرين منذ تولى رئيسة الوزراء الحالية حسينة واجد الحكم عام 2011،فحدثت عمليات إحراق وتخريب لأكثر من 20 مركز اقتراع على امتداد البلاد قام بها معارضو حسينة، ومع مرور عام على هذه الانتخابات تكرر السيناريونفسه، مظاهرات واحتجاجات وتصعيد وتبادل اتهامات من كلا الطرفين، والنتيجة فى النهاية حسينة فى الحكم وخالدة قيد الإقامة الجبرية وبنجلاديش غارقة فى الفوضى! ويصف المحللون الوضع السياسى الحالى فى البلاد بالخطير وذلك بعد أن فشلت جميع مساعى الوساطة بين السيدتين، فالخصومة الشرسة بينهما منعت حدوث أى تسوية، ومنذ انقلاب حسين إرشاد الذى استولى فيه على الحكم من رئيس منتخب بعد مقتل الرئيس ضياء الرحمن، والمرأتان تتبادلان المواقع على مدى 32 عاما، بلا جديد يذكر, فالشعارات كما هى منذ عام 1981، والاتهامات كما هى، والمظاهرات كما هى، والمزايدات كما هى، وكأنه مكتوب على ثالث أكبر دولة مسلمة فى العالم أن تزداد توترا وقلقا وفقرا. وقد أظهر تسجيل مسرب أخيرا لأول محادثة هاتفية بين السيدتين منذ خمسة عشر عاما إلى العامة، مقدار العداوة بينهما، فبعد بعض المزاح التهب الحديث بينهما عندما اتهمت حسينة واجد غريمتها خالدة بمحاولة اغتيالها، كما اتهمتها بتزوير وثيقة ولادتها بهدف التمكن من الاحتفال بعيد مولدها بالتزامن مع إحياء ذكرى اغتيال والد حسينة واجد الشيخ مجيب الرحمن فى عام 1975، حتى باتت ثنائية "الشيختان" وكأنها قدر محتوم لبنجلاديش. كانت حسينة قد اكتسبت لقب "الشيخة" منذ مقتل عائلتها كلها فى لحظة واحدة.. الأب الرئيس المؤسس مجيب الرحمن، والأم، والإخوة، والأخوات، وزوجات الإخوة 27 فردا فى ليلة واحدة لم تنج منهم سوى حسينة، التى عادت من لندن بعد أن نشأت هناك لتحافظ على "زعامة البلاد". وفى المقابل، تفطن الشيخة خالدة للعبة وتدخل فيها بقوة على خلفية اغتيال زوجها الرئيس ضياء الرحمن أول من وضع "البسملةَ" فى الدستور، ولأن بنجلاديش شأنها شأن جميع الدول التى مرت بمنحدرات ومنعطفات متوالية منذ استقلالها عام 1971 فقد غرقت فى أنهار من الدم وشبحِ الحروب الأهلية الطاحنة، وشيئا فشيئا تحولت مصطلحات مثل الإسلاميين، العلمانيين، الجيش، الطلاب، المظاهرات، الاعتقالات، الاغتيالات، إلى قواسم مشتركة فى كل الأحداث التى يفسرها كل طرف على مزاجه وهواه السياسى! فالإسلاميون يعتبرون حسينة رمزا كبيرا للعلمانية الرافضة للتوجه الإسلامى فى بلد تزيد فيه نسبة المسلمين على 95% هذا الاعتقاد سببه الإجراءات الحادة التى تتبناها رئيسة الوزراء من حظر قيام أى أحزاب دينية وإلغاء أى مصطلح إسلامى من الدستور، مما أدى إلى حظر عشرات الأحزاب الإسلامية وفى مقدمتها الجماعة الإسلامية ثالث أكبر حزب سياسى فى البلاد، ويرى البعض أنها تستغل منصبها من أجل تصفية حساباتها مع من تعتقد أنهم قتلة أبيها، كما خالفت القانون وانتزعت أحكاما بالإعدام تم تنفيذها على عشرات من العسكريين المتورطين فى قتل أفراد أسرتها. وعلى الجانب الآخر يعتبر العلمانيون خالدة ضياء واجهة يختفى خلفها الإسلاميون الذين يريدون العودة ببلادهم للوراء. وفى كلا الحالتين فشل التوجه الإسلامى المتطرف كما فشل التوجه العلمانى فى قيادة البلاد، رغم تكرر المواجهة بينهما أكثر من 6 مرات، وشيئا فشيئا انقسمت بنجلاديش إلى فئتين رغم وجود أكثر من مائة حزب سياسى هناك، هذا الانقسام أدى إلى دخول الجيش على الخط لحماية أمن البلاد ففرض حالة الطوارئ عام 2007 وقام بتشكيل حكومة مؤقتة، وقد سجنت السيدتان لمدة عام إثر ذلك بتهمة الفساد قبل عقد صفقة سمحت لهما بالمشاركة فى انتخابات ديسمبر عام 2008 التى حققت فيها حسينة فوزا كبيرا. اللافت أن السيدتين فى مستهل حياتهما السياسية عملتا سويا فوحدتا جهودهما للإطاحة بالنظام العسكرى فى عام 1990، ولكن فى السنة التالية مباشرة فرقت خصومة سياسية شرسة بين حليفتى الأمس اللتين غالبا ما تبادلتا الشتائم بعد ذلك فى أثناء التجمعات الانتخابية. وقد وصلت حسينة واجد للمرة الأولى إلى الحكم فى عام 1996 بعد أن قادت مظاهرات حاشدة ضد إعادة انتخاب ضياء فى اقتراع شابته المخالفات. لقد باتت الانتخابات شماعة لكل الأخطاء يعلق عليها كل طرف فشله فى المضى بالدولة نحو الاستقرار والأمن والحرية والعدالة الاجتماعية.. وفى كل دورة ينتظر البنجلاديشيون ما سوف تسفر عنه الانتخابات، والنتيجة معروفة.. إما حسينة وإما خالدة ولا ثالث لهما, ليظل الشعب يتساءل: أما آن للزعيمتين أن تتوقفا وتعيدا التفكير فى خروج مشرف بعيدا عن هذه الدائرة؟