رغم التدابير الأمنية المشددة التى اتخذتها السلطات التركية مؤخرا كان لافتا أن تظهر بالقرب من هذا المكان الاستراتيجى والحيوى حيث يقع المكتب الثانى لرئيس الوزراء فى إسطنبول ، تلك المجموعات التى يعد أفرادها بالعشرات ، وتنتمى إلى تيارات قومية وتنظيمات يمينية متطرفة، تضعها أدبيات الأمن التركى فى خانة الكيانات المحظورة ، الخبثاء الذين يصطادون فى المياه العكرة . وقد لاحت لهم فرصة للتنفيس عن حقدهم للعدالة والتنمية الحاكم ، راحوا يرددون مزاعم بأن هذه الجماعات كان مطلوبا وجودها ، ولا بأس لو صرخوا بشعارات كتلك : فلتسقط الإمبريالية الأمريكية ، وليرحل ممثلها عدو الجنس البشرى بايدن عن أراضينا ، أمريكا المجرمة .. إلى آخره ، والتى عادت لتتكرر صبيحة اليوم التالى السبت ، لتبعث رسالة ، ربما تصل إلى مسامع الزائر فى وصوله وترحاله إلى ومن قصر ضولما باهتشه . أيا كانت صحة تلك الأقاويل من عدمها ، إلا أن الأخطر، هو أن هذه التجمعات تعادى بذات القدر وإن لم يكن أكثر القائمين على صناعة القرار ببلادهم ، لعزمهم التضحية بوحدة الاناضول من أجل حل ما تصفه بالمعضلة الكردية ، والدليل على ذلك الشعار الذى رفعوه «لتحيا تركيا المستقلة». فى المقابل كانت الأجواء الرسمية بالغة الفخامة ، عكست فضاء واسعا ساده ترحيب يليق بالضيف نائب الرئيس الامريكى جو بايدن ، وفى المؤتمر الصحفى بأحد جنبات القصر الشهير المطل على البوسفور فى قلب اسطنبول ، سمع الحاضرون عبارات الإطراء والمجاملة : فمهما كان الخلاف والاختلاف ، إلا أن العلاقات وطيدة بين البلدين الحليفين ، هكذا اتفق الضيف بايدن، والمضيف أحمد داوود أوغلو ، وبدا هناك تفضيل بألا يثار موضوع اعتذار جو بايدن ، بشأن اتهامه لاردوغان بدعم ارهاب الجهاديين ، والذى تشدق به أوغلو، مفتخرا بأن بلاده أجبرت نائب رئيس أكبر دولة فى العالم على التراجع وطلب السماح ، فى حين أن الاخير قال إنه أبدا لم يعتذر . وعلى أية حال فهذا بات من الماضى ، وها هو بايدن بدا سعيدا لم تفارقه الابتسامة ، منذ أن وطئت أقدامه موطن الخلافة الإسلامية فى حقبتها العثمانية الغابرة إلى أن غادرها ، رغم أن ما جاء من أجله ، ظل ساكنا عند ذات المربع دون تغير اللهم وعود بتحجيم انتقال التكفيريين إلى الاراضى السورية ، المثير أن بعض المتابعين ذهبوا إلى القول بأن بايدن كان متأكدا أنه لن يحصل على شىء من أتراك العدالة والتنمية ، وأن زيارته فقط لتسجيل موقف يضاف إلى المواقف الاردوغانية المتعنتة ، وهو ما يعنى تكريس الانطباع لدى الساسة فى الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة ، بأن تركيا من تراجع إلى آخر ، وليزيد حالة العداء ضدها ، وما يفاقم تلك التوترات أن ثلاثة بحارة امريكيين. فقبيل وصوله بساعات شدد داوود أوغلو الذى كان فى اربيل بشمال العراق على أنه لا يمكن إحلال سلام دائم فى سوريا ما دام الأسد فى الحكم ، وقال للصحفيين عندما حطت طائرته مطار أتاتورك بإسطنبول، معضددا ما سبق وأدلى به ، انظروا كيف تحسنت الأحوال فى العراق بعد تشكيل حكومة اختارها الشعب ، ثم مستدركا: ولكن فى الجارة السورية لا لسلام يسعى إلى تدمير منظمة إرهابية فى جانب من البلاد ، بينما يستخدم النظام فى دمشق كل أنواع الأسلحة لإبادة جزء من شعبه فى الجانب الآخر، وهو ما كرره بصيغ مختلفة، ولكنها حملت المضمون نفسه ، خلال لقائه بالمسئول الأمريكي. واثناء محادثاته المطولة، والتى استمرت أربع ساعات ، عاود الرئيس رجب طيب اردوغان طلبه من التحالف الدولى بضرورة فرض منطقة آمنة شمال سوريا ، لمنح المقاتلين المعتدلين مكانا لتجميع صفوفهم وشن هجمات ، وبالطبع ستكون ضد نظام البعث المتحصن فى دمشق ، لكن بايدن أعاد على مسامع اردوغان أن إقامة منطقة حظر جوى ضد القوات الجوية السورية لن يحدث، فالأولوية هى القضاء على داعش وليس إسقاط بشار الأسد. وتأسيسا على ذلك وأمام إصرار إدارة باراك أوباما ، جاء العناد التركى له بالمرصاد ، وهكذا تم تجاهل مسألة تدريب المعارضة السورية المعتدلة ، والتى كانت أنقرة قد تعهدت بها ، كما أن داوود أوغلو أبلغ جون كيرى خلال لقائهما فى إستراليا على هامش قمة العشرين ، قرب الانتهاء من النقاط الفنية واللوجستية الخاصة بهدا الأمر ، فى إشارة إلى مفاوضات الوفد العسكرى الأمريكى التى جرت بالتزامن فى أنقرة لوضع تفاصيل تطبيق تعهد تركيا بتجهيز المقاتلين السوريين المعتدلين لخوض غمار القتال ضد الارهابيين الداعشيين ،إضافة إلى بحث استخدام قاعدة أنجرليك الجوية فى مدينة آضنة جنوب شرق الاناضول. إلا إن كل هذا توقف، ولم يتخذ أى قرار لا بشأن التدريب، أو استخدام قاعدة انجرليك العسكرية ، حتى الحل الوسط الذى اقترحه جيمس جيفري، السفير الأمريكى السابق فى أنقرة وبغداد ، ويتمثل فى تغيير واشنطن سياستها حيال سوريا لإرغام الأسد على الرحيل، وبالتالى موافقة تركيا على انخراط أكثر فاعلية فى الحرب ضد داعش ، مازال تحقيقه بعيد المنال وفى الأغلب الأعم لن يجد طريقه للتنفيذ. وتبقى مشكلة المشاكل وهى اللاجئون ، الذين تجاوز عددهم مليونا، و600 الف شخص، والتى باتت صداعا مزمنا بيد أنها تجاوزت مناطق التخوم متسربة إلى العديد من مدن البلاد، فى مقدمتها إسطنبول التى صارت تنطق بالعربى، وتحديدا بلهجة أهل الشام . ويبدو أن حكومة العدالة والتنمية ، لم تكن تتوقع عندما فتحت أبواب بلادها على مصراعيها امام السوريين بأن ما أقدمت عليه سيشكل معضلة استنزفت من مواردها ما يزيد على 4 مليارات دولار فى حين لم تحصل إلا على الفتات من المجتمع الدولى ( 146 مليون دولار ) وما يزيد من تفاقمها ، هى أنها مرشحة للتضخم أكثر واكثر ،خاصة مع التسريبات التى تفيد بعزم النظام السورى الذى يستعد للانقضاض على مدينة حلب من أجل استعادتها ، دفع مواطنيها دفعا للهروب إلى كيليس التركية التى لا تبعد عنها سوى 60 كيلو مترا فقط ،وهو ما يعنى مزيدا من الضغط على اردوغان، وعقابا له ولحكومته لسعيهما إنشاء منطقة عازلة ...