تحل هذه الايام ذكرى رحيل الفيلسوف الوجودى الدانماركى سورن كيركگورد(1813- 1855)، الذى ما زال الإهتمام بمؤلفاته وأفكاره فى إزدياد على امتداد العالم . ينبع هذا الاهتمام من معاصرة أفكاره لقضايا الإنسان ومشاكله المعقدة فى عصرنا. فقد استخدمت بعض هيئات الاممالمتحدة بعضا من مفاهيمه فى حل النزاعات بين المجاميع الإجتماعية الأثنية أو الدينية، كما دخلت أفكاره فى العديد من العلوم الإنسانية كعلم النفس والأنثروبولوجيا واللاهوت، علاوة على إستخدام العديد من مفاهيمه فى قضايا التربية ومناهج الأرشاد والتعليم. ما يجعل كيركگورد محط أنظار المفكرين والباحثين على امتداد العالم هو تناوله لقضية جوهرية ومهمة، طالما تجاهلها المفكرون أو الفلاسفة من قبله، وما زال يتجاهلها العديد من المفكرين اليوم أيضا، وأعنى بها قضية الإنسان - الفرد، وموقف الفرد من وجوده ، أو بتعبير آخر، موقفه من قضية الحرية باعتبارها التجسيد الحقيقى لوجوده. كثيرا ما أتهمت الفلسفة الوجودية بأنها فلسفة أنانية ، تقوم أساسا على الدفاع عن الذات دون الإهتمام بالمجتمع، أى تقوم - حسب هذا الاتهام - على تأويل أنانى للفرد ومكانته وعلاقاته بالآخرين. و هو إتهام ينطلق من فكرة تعارض الذاتى مع ما هو أجتماعي، و صادر عن قراءات سياسية خاطئة، أكثر مما هى معرفية، لمفهوم الذات الذى تقوم عليه فلسفة كيركگورد ،التى عرفت فيما بعد بالفلسفة الوجودية، التى لا ترى الى الذات ك "أنا" متضخمة، نرجسية، بل، على العكس من ذلك، تبحث فى قيمة الفرد ووعيه ووفعله الملوس فى الحياة وتميّزه عن الآخر، حيث فسر كيركگورد عبارة سقراط الشهيرة "اعرف نفسك" بأنها تعني" ميّز نفسك عن شيء آخر." كما أن كيركگورد بقى لصيقا برجل الشارع رغم تكريس نفسه كليا للكتابة، الامر الذى يتطلبه وضعه ككاتب غزير الانتاج، وتشهد مؤلفاته وحياته على ذلك. فقد اكتظت كتبه بالحكايات التى سجلها عنهم فى جولاته اليومية فى العاصمة كوبنهاكن وأحاديثه الحميمة معهم، وكتب فى يومياته" لم أتجاهل أى انسان، حتى الخادم أو الخادمة " ويضيف عام 1848 " مجرد أن أنسي، أن أقول نهارك سعيد الى الخادمة، يمكن أن يولد القلق والخوف عندى كما الجريمة، كما لو أن الله سيتخلى عني." ولهذا نرى أن مَن حضر لتشييع جنازته ليس علية القوم ، الذين تنفسوا الصعداء بوفاته، بل أولئك الافراد العاديين الذين دافع عن حرياتهم، لكن الذين وجه لهم النقد بحزم أيضا لحثهم للدفاع عن وجودهم الفردى وحرياتهم. أن اكثر ما يجلب الانتباه فى افكار كيركگورد هو مطلبه الحازم بان يكون الانسان ذاتا مستقلة، تُمّيز نفسها عن الانسان العادي، او كما يسميه، "ضيق الافق"، علاوة على نقده الصارم للكنيسة ، والتى أصابت فى الصميم الاطروحات الداعية الى التدين الشعبى والاستخدام السياسى للدين، وهو الامر الذى نلمس نتائجه المخربة على حياتنا اليوم. ماهو الإنسان ؟ أولى القضايا التى شغلت بال كيركگورد وفى وقت مبكر من حياته كانت وعى الذات وموقف الانسان من نفسه، وبالتالى وعى الواقع الذاتى الذى يتمكن من خلاله فهم العالم والقيام بفعل فيه. عام 1839 كتب كيركگورد فى اوراقه ، وقد كان فى زيارة لمدينة جليلايه الدانماركية : "الفردانية هى النقطة الحقيقية فى تطور الخلق، وكما هو معروف حينما يضع المرء نقطة، فيعنى أنه قد تم التعبير عن المعني، ويمكن التعبير عن ذلك كما يلي( ....) المعنى موجود، بحيث ان المعنى يكون أولا حينما تتحقق الفردانية، حينها يكون المعنى موجودا او ان هناك معنى فى الخلق، حتى ان الانسان يرى إمكانية أن يقلص كل الفلسفة الى عبارة واحدة. " إستمد كيركگورد الكثير من عناصر رؤيته للفرد من تفاصيل حياته؛ اولا، العلاقة مع ابيه وتربيته الدينية الصارمة له، وثانيا، المعاناة التى عاشها بسبب علاقته بحبيبته ريجينا اولسن وما تلاها من احداث تتعلق بالخطوبة منها، ثم فسخ الخطوبة بعد عام للتفرغ تماما للكتابة، إذ رأى أن مهمته الاساسية هى أن يكون كاتبا ليحمل رسالة الى القاريء- الفرد كى يحثه على التفكير بمصيره، او كما كتب فى اوراقه " من خلال إجباره على ان يكون منتبها فاننى أصل الى اجباره كى يحكم، ولكن بماذا يحكم؟ فهذا ليس تحت سلطتي، فهو قد يحكم عكس رغبتي." وكان اهتمامه بالفرد و جعل الذات الانسانية محط اهتمامه الرئيسى فى مؤلفاته بمثابة ردة فعل على ذلك التجاهل الذى لمسه من مفكرى عصره. ويعتبر الفيلسوف الالمانى جورج فردريك ويلهم هيغل (1770- 1831) الممثل الأهم لتلك الافكار. هيغل و كيركگورد تأثر كيركگورد بافكار وفلسفة هيغل واخذ عنه العديد من مفاهيمه. وقد كان تأثير هيغل عليه واضحا خصوصا فى كتابه " عن مفهوم التهكم بالإشارة الى سقراط" (1841) الا انه سرعان ما وجه نقدا صارما لرؤية هيغل الشمولية ومنطقه الفكرى التجريدي. وجد هيغل، الاب الروحى لكل الفلسفة الشمولية، التى مهدت فيما بعد لقيام أنظمة جماهيرية وشمولية، من خلال منظومة فلسفية، حلولا، يحكمها العقل والمنطق، لكل قضايا الانسان والمجتمع والتاريخ، ورأى ان التطور محكوم بالضرورة التى تقودها فكرة اعلي. وهذه الفكرة تقوم على منهج ديالكتيكى يتضمن صراعا ووحدة للاضداد، وينتهى بحلول جديدة للانسان، يجسدها وعى الروح المطلقة. ويتحقق عبر هذا الدياكتيك انتقال تعاقبى فى التاريخ من مرحلة الى اخري، انتقال يكون بطريقة تصاعدية تطورية وايجابية، تلعب فيه الدولة الدور المهم لضبط افعال المواطن وضمان ولائه لها. فالدولة بالنسبة لهيغل هى التجسد الامثل للفكرة المطلقة، الروح، وقد جعلت، كما اشار فى كتابه "فلسفة الحق"، الذات مجرد عنصر من النظام السياسى والفرد محض عنصر فى جهاز الدولة. وهكذا فان الفرد، باعتباره مخلوقا اخلاقيا، تمت إزاحته جانبا من خلال التأكيد على الاخلاق العامة وضبط الحياة الاخلاقية فى مؤسسات المجتمع المدنى للدولة، أى أن هيغل طالب بالتوافق بين اخلاق الفرد والقانون العام. علاوة على ذلك فان مفهوم الحرية ضمن نطاق منظومته الفكرية تحدده وتعرفه علاقتها بالدولة. الحرية ينبغى طبقا لهيغل ان تكون بانسجام مع الضرورة التى تمليها الدولة، بحيث تعتبر طاعة الفرد وولائه المطلق لها جزء من حريته. انتقد كيرككورد هذه الفسلفة فى كتابه "مفهوم التهكم"(1841)، رغم انه لم يتخلص تماما من شبحها، ورأى أن الاخلاق هى امر فردى وتتحقق من خلال الفرد وعلاقته باخيه الانسان. وان الدولة لا يمكنها ان تكون عاملا او اداة أخلاقية. فالدولة تحكم،وتستخدم العنف فى نشاطها، بغض النظر عمّا إذا كان شكل الحكم استبداديا او ديمقراطيا. وكتب فى رده على هيغل." النشاط الاخلا قى هو نشاط فردى ولا علاقة له بالحشد او الدولة (....) الدولة لعبة حول السلطة"، لان الفرد هو الوحيد المسؤول عن أفعاله. واضاف " لا يمكن للدولة أن تكون اخلاقية او تمتلك صفات أخلاقية. الدولة يمكنها فقط أن تحافظ على القانون، أى ان تمنع المجرمين ومخربى السلم الاجتماعي، لكنها لا يمكن ان تمارس نشاطا اخلاقيا." وكانت هذه الافكاره تنطلق من رؤية مسيحية ترى فى الحب، اى حب الله، المؤشر على حقيقة هذه الاخلاقية. رأى كيركگورد أن هيغل والفلاسفة الاخرين الذين يتبعون خطاه "يبنون لهم قلاعا ضخمة من الأفكار بينما هم يعيشون فى مساكن وضيعة"..بمعنى انهم يعيشون فى عالم من الخديعة والاوهام بعيدا عن الواقع. ولهذا فقد طرح كيركگورد ، بدلا عن مراحل هيغل التى تحققها الفكرة ، مراحل أخري، وخصوصا فى كتبه "أما - او"(الذى صدر بجزئين عام 1843) ، و فى "مراحل على طريق الحياة"(1845) ، وهى الجمالي، الأخلاقى والديني. وطبقا لكيرككورد فان الانتقال بين هذه المراحل يتحقق عبر"القفزة " ، أى الاختيار الذى يتجسد عبر العمل والفعل الذاتي، وهو إختيار نوعي، وهذا هو كل مغزى الفكر الوجودي. وهكذا يمكن تلخيص اعتراضات كيركگورد على هيغل بنقطتين اساسيتين ، ان هيغل يقيم بنى فكرية مجردة بعيدة عن الحياة ، و الثانى ان هيغل يخلط فى نظامه بين اللاهوت والفلسفة، كما أن الفلسفة لديه تحتل المكان الاول. مقابل ذلك شدد كيركگورد على ان " فكرة الفلسفة هى التصالح ، بينما فكرة المسيحية فهى المفارقة". ولهذا إعتبر أن مهمته تتلخص برفض هذه الأطروحات وأن يبين ان المسيحية فى علاقتها مع الفلسفة تحتل مكانا آخرا أعلى منها. معللا ذلك عبر تقديم تعريف مركزى لمفهوم "العبث" او "المفارقة" لغرض تشخيص محتوى المسيحية بعلاقتها مع الفلسفة ، كما يعبر فى واحدة من يومياته " تقديم رؤية عن العالم تكون المفارقة طبقا لها أعلى من كل نظام". ومثلما رأى فى وجود المسيح "مفارقة" لا يمكن توضيحها عبر المنطق والتدليل العقلى والدلائل التاريخية، فانه رأى فى حياة المسيح ومعاناته وصلبه عملا فرديا خالصا وإيمانا ينطلق من فعل ذاتى بحت