بعد أن سقط الاتحاد السوفيتى فى أوائل التسعينيات وربما أواخر الثمانينيات، كان الأمل فى منطقتنا العربية يداعب البعض بأن أوروبا يمكن أن تكون الكتلة الثانية، حتى لا يقع النظام الدولى فى يد الولاياتالمتحدة، التى ستفرض نفسها فرضا فى هذه الحالة لتختطف القرار الدولى وترى نفسها القطب الأحادى الذى يحكم العالم..! وزاد من هذا الطموح لدى البعض، أن دولا مثل فرنسا، فى زمن جاك شيراك، وألمانيا فى زمن المستشار شرودر، كانت تنادى باستقلالية القرار الأوروبى عن القرار الأمريكي! لكن والحق يقال، كانت نزعة فرنساوألمانيا الاستقلالية صرخة فى البرية! فقد جاء اليمينى ساركوزى فى فرنسا، وعاد ببلاده لتكون عضوا فى حلف الناتو.. وهو الشيء الذى كان يرفضه قبل سنوات الجنرال ديجول، مؤكدا أن لفرنسا شخصيتها المستقلة تماما عن أمريكا! وكلنا يذكر أن فرنسا رفضت فى زمن شيراك، المشاركة فى حرب العراق.. وكان لها رأى متحيز عن أمريكا.. حيث كانت تعطى الأولوية للمفتشين الدوليين!.. وكانت ترى أنها مع أوروبا العجوز أصل العالم، أما أمريكا، بقضها وقضيضها، فلم تكن موجودة قبل مائتين وخمسين عاما! على أى حال لقد تبدلت المعادلات الدولية، وجاء فرنسوا أولاند رئيس فرنسا الحالى لينسى تماما النزعة الاستقلالية الفرنسية، ويرتمى دون وجل فى أحضان السياسة الأمريكية، بحيث يحلو لبعض المحللين السياسيين أن يقول: لقد عادت أمريكا فى زمن ساركوزى وأولاند، الى بيت الطاعة الأمريكي..! المؤسف أن ما كانت تفعله فرنسا، كانت تفعله ألمانيا.. بمعنى آخر أى ألمانيا، ميركل، ليست هى ألمانيا شرودر.. بل إن ميركل عندما اختارها الشعب الألمانى لموقع المستشارة ذهبت من فورها الى واشنطن.. حتى يحلو للبعض أن يقول إن ميركل ذهبت إلى أمريكا لتحصل على الأجندة الأمريكية، التى ستعمل بمقتضاها! أيا كان الأمر، إن أوروبا الحاضر المتمثلة فى الاتحاد الأوروبى تسير معصوبة العينين وراء أمريكا، وهو ما يذكرنى بمقال صدر فى صحيفة لوموند عشية وقوع أحداث 11 سبتمبر، يقول: نحن جميعا أمريكيون.. أى أن الأوروبيين هم فى الأصل أمريكيون.. وليس العكس! ولأننا نهوى أن نسمى الأشياء بمسمياتها الحقيقية، فإن أوروبا لا تختلف كثيرا عن أمريكا، بل بالعكس أن أوروبا أشد شرا من أمريكا بالنظر الى تراثها الاستعمارى المعروف فى دول الشرق الأوسط.. فمصر والسودان كانتا من نصيب الإنجليز.. وليبيا كانت من نصيب إيطاليا، أما دول المغرب العربى وبعض دول المشرق العربى كانت من نصيب فرنسا.. وفى هذا المعنى كلنا يعرف دقائق وتفاصيل اتفاقية سايكس بيكو القديمة. واذا أمعنا النظر وجدنا أن أمريكا وهى تحاول إضعاف الدور المصرى منعت عن الشعب المصرى المعونة الأمريكية.. وفوجئنا بأن أوروبا أو الاتحاد الأوروبى يمنع عن مصر تلقائيا المساعدات الأوروبية.. الغريب والعجيب أن أمريكا وأوروبا منعتا المعونة والمساعدات وهما تعلمان أن مصر كانت تحارب إرهاب الإخوان، الذين حرقوا ستين كنيسة وخمسين مسجدا وقتلوا عشرات المصريين فى الأزقة والشوارع والميادين!! بمعنى آخر، أوروبا مثل أمريكا.. لم تتحرر بعد من طموحاتها الاستعمارية! واذا كنا نرى أن أمريكا هى رأس الشر الذى يضمر لمصر والعالم العربى السوء كل السوء فإن أوروبا ليست بريئة، ناهيك عن أن تراثها الاحتلالى معروف يحفظه الصغار قبل الكبار! واذا سأل أحد عن عناوين كبيرة مثل الشراكة.. وطوف الأصدقاء ومحادثات خمسة + خمسة.. أقول إنها مجرد ستار تخفى وراءها أوروبا أسنانها الحامية التى تريد أن تلتهم بها الأخضر واليابس فى منطقتنا العربية. ثم لا ننسى أن مشاريع الشراكة لم يشعر بها المواطن المصرى أو العربى العادي.. ناهيك عن أن بعض الأوروبيين يرى أنها مفرخة لتعليم الفساد.. لأن بلادنا تعانى من هذا المرض اللعين وابحثوا فى تقارير الشفافية التى تكتبها الدول الغربية بنفسها!! باختصار يجب ألا نفرح كثيرا بهذه العناوين البراقة، فأوروبا لم تتحول بين يوم وليلة ليكون بردا وسلاما على مصر والعرب، فتاريخ الاستعمار الأوروبى لايزال مخزونا فى ضمير الشعب العربي، وقديما قالوا إن الجرذان لا ترمى كتاكيت. أخيرا لن يقيل مصر والعرب من عثراتهم إلا بالاعتماد على ذواتهم، فاتحاد العرب ووقوف بعضهم إلى جانب البعض هو الذى سيجعل أمريكا ترعوي.. وأوروبا تنكمش.. لمزيد من مقالات د. سعيد اللاوندي