الثابت والمتحول في العلاقات الأمريكية - الأوروبية الحسين الزاوي عرفت العلاقات الأوروبية الأمريكية عدة فترات من المد والجزر، خاصة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وتراجع الهواجس الأمنية التي كانت تفرضها ظروف الحرب الباردة. فقد سعى الكثير من الدول الكبرى في القارة إلى إبراز اختلافها وتحفظها على السياسات الخارجية للولايات المتحدة، ويمثل الموقف الثنائي الفرنسي الألماني من الحرب الأمريكية ضد العراق، أبرز المحطات التي تعبر عن تميز وفرادة الموقف الأوروبي عن الحليف التقليدي لها، لكن هذا التوجه الذي يتميز بالاختلاف والمغايرة لم يستمر لمدة طويلة. حيث ظهرت بوادر التراجع في سياق الخطوات الاستقلالية للدول الأوروبية، في التجلي بعد سقوط حكومة شرودر بألمانيا وتولي المستشارة الحالية “ميركل" مقاليد الحكم، ليبتدئ بذلك الخط السيادي في الاضمحلال. حيث عبرت المستشارة الجديدة عن تمسكها بالتحالف الاستراتيجي الذي يجمع بلادها بالولاياتالمتحدة منذ الأيام الأولى التي أعقبت فوز حزبها في الانتخابات حتى وإن حافظت داخلياً على تحالفها مع الكتلة البرلمانية للمستشار السابق. والوضعية نفسها تشهدها العلاقات الفرنسية الأمريكية منذ رحيل جاك شيراك ومجيء ساركوزي، حيث تسارعت خطوات “التطبيع" وفاقت في مداها سرعة التقارب الأمريكي الألماني، فقد أراد الرئيس الفرنسي الجديد أن يستثمر الوقت الضائع ويسارع إلى التحالف مع القوة العسكرية والاقتصادية الأولى في العالم، للحفاظ على ما تبقى لفرنسا من نفوذ، وذلك بعد أن أصبح خط “الممانعة" الأوروبي هشاً وضعيفاً نتيجة لصلابة وقوة التحالف الأمريكي البريطاني والسكندنافي من جهة والتحالف الأمريكي السلافي مع عدد كبير من دول أوروبا الشرقية من جهة أخرى.الأمر الذي جعل المواقف الأوروبية المقاومة تبدو قليلة الجدية وغير قادرة على بلورة استراتيجية طويلة المدى من شأنها أن تفضي على المدى البعيد إلى ميلاد كيان أوروبي قوي ومنافس للقوة الأمريكية في العالم. ويمكن القول إن حالة العجز المزمن التي تميز الموقف الأوروبي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لا تعود فقط إلى التنافس التقليدي والاختلاف الثقافي واللغوي الذي يميز العلاقات الأوروبية الأوروبية، ولكنه راجع في قسم كبير منه لانعدام الرغبة الجدية لدى المملكة المتحدة في وجود كيان أوروبي قوي قادر على منافسة وتحدي القوة الأمريكية، لأن ما يجمعها بالضفة الأطلسية أكثر بكثير مما يربطها بخصومها التقليديين في أوروبا المثقلة بجروح الذاكرة التاريخية. ولأن ألمانيا مكبلة بميراثها النازي، وفرنسا مازالت تعيش حنين المجد الاستعماري القريب منه والبعيد، فإن العلاقات الأوروبية الأمريكية لا يمكن إلا أن تستمر على وقع خطى مرحلة الحرب الباردة بين فترات من المد والجزر يكون فيها اللاعب الأمريكي هو المحدد والمخطط لأصول وقواعد اللعبة. وحينما يقول ساركوزي لبوش إنه جاء ليستعيد محبة قلوب الأمريكيين اليوم وإلى الأبد، فإنه يعبر عن طموح قسم كبير من رجال الأعمال الفرنسيين، في أن تتنازل أمريكا عن قسم من الكعكة الاستثمارية العالمية للشركات الفرنسية التي تعاني من تقلص في نفوذها في مجمل دول العالم. ومن غير المعقول في كل الأحوال أن تدخل دولة بمفردها كفرنسا، في منافسة غير متكافئة لكيان بحجم القارة مثل الولاياتالمتحدة، خاصة وأن هذا الكيان مازال مدعوما من قبل أكثر اللوبيات قوة وتنظيما في العالم ألا وهو اللوبي اليهودي، خاصة بعد أن وقع اختياره على أمريكا كقاعدة لاستقراره وانتشاره عبر مختلف الأصقاع. أما بالنسبة لباقي الدول الأوروبية فإن علاقاتها مع أمريكا لا تختلف إلا قليلاً، فإسبانيا التي دعمت أمريكا في زمن حكومة خوسيه ماريا أزنار حاولت أن تبدي اختلافها مع السياسة الأمريكية مع مجيء الحكومة الحالية تحت قيادة ثاباتيرو، من خلال سحب قواتها من العراق، ولم يكن بوسعها أن تفعل غير ذلك وهي التي فازت بالانتخابات على وقع تفجيرات مدريد ومطالبة الشارع الاسباني بسحب الجنود من العراق. وعلى العموم فإن ضعف الجبهة الداخلية لإسبانيا بفعل تنامي النزعات الانفصالية، والتي تمثل المشكلة “الباسكية" أبرز تجلياتها، لا يؤهلها لأن تتخذ مواقف جريئة على المستوى الدولي. الوضع الإيطالي فيما يخص العلاقة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، محكوم هو الآخر بوجود تأثير كبير للجالية الايطالية في أمريكا في كل ما يتعلق برسم السياسات الكبرى للدولة الايطالية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مما يجعل الاختلاف في السياسة الخارجية ما بين اليمين واليسار غير مؤثر بشكل كبير، باستثناء ما تعلق منها بالعلاقة مع الاتحاد الأوروبي. من الواضح بالرغم من كل ذلك، أن مواقف الحكومة الايطالية السابقة في عهد برلسكوني كانت أكثر دعما لسياسات بوش، مقارنة بمواقف حكومة رومانو برودي الحالية، لكن حكومة اليسار لم تمارس تأثيراً أو ضغطاً لافتاً على المواقف الخارجية الأمريكية، لأن سحب القوات من العراق، لا يمكن تفسيره إلا من خلال خانة تجسيد الوعود الانتخابية التي رفعها على عاتقه قبل وصوله إلى السلطة. والحقيقة البسيطة التي يجب الالتفات إليها في هذه العجالة هو أن الأحزاب اليسارية الأوروبية وبالرغم من الطابع التحرري الذي يميز برامجها السياسية، والتي تُفسّر في العادة بكونها داعمة لحقوق الأقليات وخاصة ما تعلق منها بمطالب الجالية العربية والإسلامية، إلا أن مواقفها الجوهرية من الصراع العربي “الإسرائيلي" لا تختلف كثيراً عن المواقف التقليدية لبقية الأحزاب. خاصة وأن أغلب الأحزاب الاشتراكية الأوروبية منضوية تحت لواء الأممية الاشتراكية الأوروبية، التي يعتبر حزب العمل “الإسرائيلي" عضواً مؤثراً بداخلها إلى الدرجة التي تجعل من مواقف تلك الأحزاب، نسخة طبق الأصل لمواقف حزب العمل. أما في ما يتعلق بمواقف الأحزاب اليسارية الأوروبية من الأوضاع الداخلية للدول العربية، فإنها تتسم في الغالب بتحامل كبير، يمكن تفسيره جزئياً بقرب الكثير من المنظمات الحقوقية الأوروبية غير الحكومية من تلك الأحزاب. وعليه فإن ما يدعو إلى الاستغراب ليست هي المواقف الأخيرة للرئيس الفرنسي ساركوزي اتجاه أمريكا، ولكن ما يثير الدهشة ويضاعف من ذلك الاستغراب، هي القراءات المختلفة التي ما فتئنا نمارسها بصدد تلك المواقف لأنه ليس بإمكان أي كان أن يكون عربياً أكثر من العرب، لأن التحولات الطفيفة التي تحكم المواقف المختلفة للآخرين لا يمكن أن تؤثر في المواقف التقليدية والثابتة التي يتبنونها من أجل دعم مصالحهم الاستراتيجية. عن صحيفة الخليج الاماراتية 11/11/2007