أثارت الخسائر المتلاحقة لأحزاب أوروبا التقليدية أمام قوى اليمين المتطرف، سواء على مستوى البرلمان الأوروبى، أو المجالس البلدية المحلية، خاصة فى فرنساوبريطانيا، العديد من المخاوف على مستقبل أوروبا، لا سيما بعد ما بات يمثله هذا الصعود المتنامى من تهديد قوى للوحدة الأوروبية التى أصبحت، وربما للمرة الأولى فريسة لتهديدات قوى الجماعات المتطرفة فى الداخل قبل الخارج. ورغم إطلاق أوصاف مثل "المفاجأة" أو "الصدمة" على النتائج المدوية لقوى اليمين المتطرف فى أوروبا، خاصة الظهور الأول تاريخيا لحزب "الجبهة الوطنية" المتطرف بزعامة مارين لوبان فى مجلس الشيوخ الفرنسى أواخر شهر سبتمبر الماضى، فإن القارئ للأحداث ربما يرى بوضوح مدى توفير الظرف الإقليمى والعالمى للمناخ والبيئة الخصبة لمثل هذا الصعود لقوى اليمين المتطرف، التى طالما ناصبت العداء للمهاجرين الأجانب، خاصة من العرب والمسلمين. ومن ثم جاءت مشاهد ذبح المراسلين وما أعقبها من السعى نحو تشكيل تحالف دولى جديد ضد الإرهاب بمثابة الفرصة التى لا تعوض لإعادة العزف على وتر"الإسلاموفوبيا" وتأكيد ذات الصورة الغربية النمطية المغلوطة عن المسلمين التى ظلت تروج لها على مدى سنوات، بالشكل الذى يؤكد صواب رؤيتها منذ البداية لخطر المهاجرين وضرورة التخلص منهم أمام الناخبين.
كذلك فقد أدى تباطؤ معدلات النمو الاقتصادى المحلى عقب الأزمة المالية العالمية الحادة فى 2009، وما نتج عنه من ارتفاع لنسب البطالة والفقر فى منطقة اليورو إلى تهيئة الفرصة مجددا أمام عودة التشكيك فى فكرة الوحدة الأوروبية، والحديث عن آثارها السلبية على الاقتصاديات المحلية مقارنة بفوائدها.
ورغم ذلك فإن المكاسب التى حققتها الأحزاب اليمينية المتطرفة لم تبلغ حد الخطر بعد، حيث لم تنجح سوى فى حصد نحو 46 مقعدا من مجموع المقاعد فى البرلمان الأوروبى والبالغ عددها 751 مقعدا، إلا أن الخطر الأكبر اليوم بات من استمرار تقدمها على المستوى المحلى، حيث ارتفعت شعبية حزب "الاستقلال" البريطانى بنسبة 25٪ قبل الانتخابات العامة فى مايو المقبل على سبيل المثال، طبقا لاستطلاع جديد للرأ ى أجرته صحيفة "ديلى ميل" البريطانية الأسبوع الماضى، وهو ما بات يدعم صحة التوقعات بأن انتخابات البرلمان الأوروبى فى مايو الماضى لم تكن سوى البداية لما قد تصبح عليه الصورة فى مايو المقبل فى بريطانيا، أو -كما سبق ان توقع جان مار ى لوبان مؤسس حزب الجبهة الوطنية الفرنسى-ان الانتخابات البلدية ستصبح "الحلقة الأولى فى مسلسل سيقود إلى فوز مارين لوبان لرئاسة الجمهورية سنة 2017"، الأمر الذ ى أثار القلق لدى قادة دول الاتحاد الأوروبى، للدرجة التى دعتهم إلى عقد اجتماع عاجل فى بروكسل لمناقشة نتائج وتأثيرات هذا الصعود على الوحدة الأوروبية، التى وضح تماما أنها ما زالت محل جدل لدى قطاع عريض من الناخبين الأوروبيين المشككين فى فوائدها، ناهيك عن نتائجها السلبية على صورة أوروبا فى الخارج، خاصة فى ظل حربها المعلنة على قوى الإرهاب والتطرف فى العالم، الأمر الذى يدعو إلى التشكيك فى الأهداف المعلنة من ورائها، حيث إن السؤال المطروح : كيف تحارب أوروبا التطرف وهو يتسلل من وراء ظهريها؟! أم أن الحرب المعلنة اليوم لا تعدو كونها حربا استعمارية جديدة هدفها الخفى هو إعادة توزيع الأدوار والأنصبة وفق المتغيرات الطارئة على المشروعات القديمة للمنطقة، بل وفى إفريقيا كذلك؟!
هذا الأمر نفسه هو ما عبر عنه الرئيس الفرنسى فرانسوا أولاند فى خطاب له، عبر فيه عن حزنه العميق لتقدم اليمين المتطرف على حساب الأحزاب اليسارية والمعتدلة، وقال أولاند فى الخطاب : "نحن نعيش وضعا صعبا وخطيرا عبر عنه الشعب الفرنسى بتصويته لليمين المتطرف، لأنه أضحى يشعر بالغربة فى أوروبا"، فيما قال ويليام هيج وزير الخارجية البريطانى ردا على هذا الصعود : "نعم أعتقد أنه علينا القلق فى مواجهة مثل هذه التطورات فى بقية أنحاء أوروبا".
وعليه، فإن جميع المؤشرات ربما باتت تؤكد واقع أن الصعود المتنامى لقوى اليمين المتطرف فى أوروبا خلال الفترة الحالية ليس وليد الصدفة، أو مجرد ظاهرة طارئة سرعان ما تختفى، إنما أصبح واقعا يستدعى التوقف أمامه، لا سيما فى ظل توافر الكثير من العوامل الداعمة لاستمرار صعودها مستقبلا، إلى الدرجة التى قد تصل معه هذه القوى إلى طرق باب الإليزيه فى 2017 أو القدرة على طرح مرشح لرئاسة البرلمان الأوروبى فى انتخابات 2019، بما يعنى ذلك من تهديد للوحدة الأوروبية، ولأوضاع وحقوق الأقليات والمهاجرين، التى تشهد تراجعا واضحا بسبب ازدياد نفوذ تلك الجماعات.
إلا أن المفارقة هنا هى ما قد تحمله الصورة الحالية للأوضاع فى المنطقة العربية - التى راحت الجماعات المتطرفة المسلحة تقتطع منها الجزء تلو الآخر، وتباعد بينها وبين حلم تحقيق وحدتها يوما بعد آخر - من ملامح صورة مستقبلية للمخاوف الأوروبية من القضاء على وحدتها، وكأن القدر يذيق أوروبا من ذات الكأس التى أذاقها ساستها للمنطقة بفضل رعايتهم واحتضانهم لممثلى الجماعات الإرهابية على أراضيها على مدى سنوات طويلة، مقابل سياساتهم تجاه مواطنيهم من المهاجرين الأجانب، التى لم تخلق سوى مجتمعات عنصرية رافضة وطاردة لهم، من ثم انقلابهم عليها هى الأخرى، بالشكل الذى أضحت عودتهم لها بمثابة الهاجس الأكبر لقادة الاتحاد الأوروبى اليوم، حيث تحولت الوحدة والأمن لأهداف فى مرمى نيران الصعود السياسى المتنامى لقوى اليمين المتطرف فى الداخل والميليشيات المسلحة فى الخارج.