اخترقت صحيفة «نيويورك تايمز» الأسبوع الماضى المسكوت عنه فى عالم صناعة الأفكار المعروف بظاهرة مراكز التفكير Think Tanks بتحقيق استقصائى غير عادى عن تأثير الأموال الأجنبية فى خلق نفوذ فى واشنطن والعالم وطال التحقيق دولا وشركات كبري كانت تلك الصناعة فى مأمن من الانتقادات العنيفة لعقود طويلة منذ ازدهارها فى بدايات الحرب الباردة وحاجة دوائر صناعة القرار فى العاصمة الأمريكية إلى «أوعية تفكير» و«حضانات» تخرج أوراقا بحثية وأوراق سياسات حتى وصل عدد المراكز البحثية فى الولاياتالمتحدة إلى أكثر من 1600 مركزاليوم.. وراء ما فعلته الصحيفة الكبري، فى الغالب، هو حالة التردى التى أصابت التوصيات التى ترفع لصانع القرار من تلك المؤسسات البحثية والتى عجزت عن تقديم ما هو مفيد للسياسة الأمريكية التى تعانى من تراجع كبير فى السنوات الأخيرة فى مناطق حيوية منها الشرق الأوسط وشرق اسيا والأمريكتان وجنوح مراكز معروفة إلى تبنى أجندات خفية لدول بعينها وهو ما فاقم من أزمة صناعة القرار الأمريكي. على سبيل المثال، هناك من الباحثين المعروفين من تفرغ للهجوم على الأوضاع فى مصر بعد 30 يونيو وهو ما دفع مؤسسة معروفة مثل مجلس الأطلنطى إلى إجبار باحثة كبيرة على الاستقالة من «برنامج مصر» بعد أن دعت إلى قطع المساعدات العسكرية عن مصر وهو ما يمثل تهديداً للأمن القومى الأمريكى وهناك مراكز بحثية أصبح النفوذ المالى القطرى فيها لا تخطئه العين وقال باحث عمل بفرع مؤسسة بروكينجز فى الدوحة للصحيفة أن التعليمات لديه كانت عدم الإقتراب من السياسات القطرية فى أوراقه البحثية. وقد احتدم الجدل فى واشنطن فى الأيام الأخيرة حول الخلل الكبير فى صناعة الأفكار التى تميزت بها العاصمة الأمريكية وتسيدت العالم لمدة طويلة إلا أن ظهور المال الخارجى يهدد بالعصف بتاريخ مراكز تفكير مرموقة وربما يعجل بوضع المؤسسات الشهيرة تحت المنظار فى الكونجرس وربما تحت طائلة القانون لو ثبت الخلط ما بين إقامة كيانات بموجب القانون لا تهدف إلى الربح وبين ممارسة أعمال تدخل تحت بنود صناعة الضغط والتأثير لصالح أطراف خارجية Lobbying والفارق بين الاثنين كبير جدا، كما أن النفوذ الخارجى لا يتوقف عند الترويج لسياسات الدول التى تخدم المصلحة الأمريكية فى المقام الأول بل يتعداها إلى تمرير سياسات بعينها تخدم الطرف الخارجى لدى سياسيين ومشرعين بارزين وهو ما يعنى خروج تلك المراكز عن دورها فى تقديم دراسات وأفكار محايدة. فى الأصل، أنشأ مليارديرات الصناعة الأمريكية تلك المؤسسات بأموال وفيرة لتحريرها من السقوط فى قبضة تأثير التمويل، فقام أندرو كارنيجى بضخ 10 ملايين دولار فى المؤسسة التى تحمل اسمه إلى اليوم لتحريرها من الجرى وراء التبرعات وهو ما اعتبره الكثيرون طاقة نور للديمقراطية الأمريكية يمنحها قدرة على تصحيح المسار من خلال الرؤى البعيدة عن الأهواء والانحيازات إلا أن المؤشرات الأخيرة جاءت بصورة محبطة وصارت المؤسسات البحثية تفعل عكس ما أراد جيل المؤسسين. هناك تشبيه شهير فى واشنطن للعلاقة بين مؤسسات الحكم ومراكز الأبحاث هو «الباب الدوار» بمعنى أن الباحثين الكبار يتنقلون ما بين الجهتين طوال الوقت حيث يقضى الخبراء فترات فى تلك المؤسسات ويخرج بعدها إلى العمل فى الإدارة أو الكونجرس قبل أن يرحل مجددا إلى موقعه القديم وهكذا. وبالتالى فالباحث السياسى أو الاقتصادى فى تلك الدائرة ليس باحثا عاديا ولكنه يجمع ما بين السياسى وصانع الأفكار طوال الوقت ويمتلك قدرة على النفاذ إلى دوائر السلطة إلى حد كبير.. وقد ردت مؤسسة «بروكينجز» التى تقدر موازنتها السنوية بعشرات الملايين من الدولارات، على تقرير الصحيفة إلا أن البراهين التى ساقتها دفاعا عن الحيادية والنزاهة لم توقف الجدل المتصاعد حول الهزال الذى أصاب «عقل واشنطن» وضرب أول ما ضرب صناعة السياسة الخارجية الأمريكية التى تعانى من تخبط ملحوظ يعود فى جزء كبير منه إلى غياب الإستراتيجية الشاملة للتعامل مع قضايا عالمية ملحة مثل الخطر الأصولى فى الشرق الأوسط والموقف من جماعة الإخوان المسلمين ومن صعود الصين على حساب القوة الأمريكية وطرق مواجهة المنافسين التجاريين على المستوى العالمي. وقد كانت مواقف تلك الدوائر البحثية من الوضع فى مصر جرس إنذار مبكر عن الخيبة التى أصابت الكثيرين إلا أن الأموال المتدفقة وكثيرا منها خفى وبعيد عن المراقبة والشفافية مازال يصنع وعياً مزيفا لدى النخب الأمريكية وبعضها يركن إلى الكسل فى التحليل ويبحث عن الوصفات الجاهزة للقضايا العالمية .. وهنا مكمن الداء فى واشنطن! لمزيد من مقالات عزت ابراهيم