أحيانًا إذا لم تفضح المُتهم بالسرقة رعشةُ يديه، فقد تفضحه نظافتها. وتحضرني هنا قصة من القصص العربية القديمة والملهمة... يُحكى أن شيخًا من شيوخ قبائل العرب سُرق منه خاتمٌ عزيزٌ عليه، كان قد ورثه عن أجداده، فدلوه على حكيم من دُهاة العرب ذي فراسة، فطلب الحكيمُ حمارًا وقرأ عليه أمام الملأ تعاويذ، ثم قال: ها هو الحمار قد صار مسحورًا، ولسوف يتعرف على السارق حال اقترابه منه، شريطة أن يُترك الأمر للغد. ثم أمر بإطعام الحمار أفضل أنواع الشعير وسقيه ووضعه في خيمة. وفي الغد طلب أن يدخل أفراد عائلة الشيخ وأقرباؤه واحدًا إثر الآخر ويُمسكوا بذيل الحمار. مذكرًا إياهم أن الحمار مسحورٌ وسيركل السارق وستتورم يداه، ولما كان ما أمر به. وقف الجميعُ أمامه، فقال الحكيمُ للشيخ: دونك السارق فهو أمامك. فأجابه الشيخ: كيف وأنا لا أرى ورمًا في يد أحد؟! فأجابه الحكيم: مَن لم تش به رعشةُ يديه، فضحته نظافتها، فشم أيديهم. فتعجب الشيخ قائلاً: كلُّ أيديهم برائحة الزعتر، إلا هذه الجارية. فأجاب الحكيم: إذًا فالسارق هو هذه الجارية، ذلك يا سيدي أنني لا أعرف السحر، لكنني أفهم في نفوس اللصوص، ولذلك طليت ذيل الحمار بمنقوع الزعتر، فأمسك به كلُّ مَن لم يسرق إلا جاريتك هذه، لأنها خافت أن يركلها الحمار وتتورم يداها. وتنطبق هذه الحكاية منذ فترة طويلة على حال الكثير من الأفلام السينمائية والكثير من المسلسلات الدرامية التي تهجم على المشاهد المصري في شهر رمضان. فسُراق الأفلام الأجنبية وكُتَّاب الدراما يخشون الاقتراب من الأعمال الروائية أو القصصية أو حتى التاريخية، كأنها ذيل الحمار الذي يخشون أن يركلهم ويفضحهم، لكنهم في الوقت نفسه يسرقون هذه الروايات، ويشوهونها ويغيرون أسماء أبطالها ثم يعيدون كتابتها بكلّ ركاكة ممكنة. وإذا انتهوا من الإجهاز على الروايات، فهم يفتشون في حكايات المجتمع وحوادثه الكُبرى وخلطها معًا في خلاطٍ صيني عالي السرعات صُنع على عجلٍ، ومن ثم يفوتهم أن الحكاية أو الحادثة الكُبرى مغلقة على نفسها ومكتملة دراميًّا، وسيكون من المضحك أن يدخل هاملت على عطيل وديدمونة في مسرح شكسبير إلا في عرض هزلي مقصود. لم ينج من هذا الفخِّ إلا عملان رائعان لمؤلفيهما «عبد الرحيم كمال» الذي كتب في تتر مسلسله «دهشة» أنه عن رائعة شكسبير «الملك لير»، و»مريم نعوم» التي أخذت مسلسلها «سجن النسا» بالعنوان نفسه عن مسرحية «سجن النسا» للكاتبة الراحلة «فتحية العسال»، فيما عدا هذان الكاتبان خرجت معظم أيدي كُتَّاب الدراما نظيفة من نصٍ مُؤلفٍ يحفظ أسماءهم أو حتى أسماء المؤلفين الأصليين أو حتى أسماء أبطال القصص الواقعية الحقيقية. ولأن الأيدي نظيفة من التأليف، ولأن الجمهور المصري يفتقد منذ سنوات فوازير رمضان، فلقد لعب اللعبة المسلية مع المسلسلات، وأخذ يُعيد لأبطال الحلقات أسماءهم الحقيقية في الواقع، فهذا هو رجل الأعمال الشهير، وهذه ابنة المطربة المُغتالة، وهذه حكاية البلطجي الخارج عن القانون إياه، وهذه فكرة تلك الرواية، وهذه حفنة من الحكايات الصُغرى المُكررة في الدراما المصرية، مثلاً كزواج الشيوخ من الفتيات القاصرات، أو بؤس المناطق العشوائية، أو فساد المسئولين الكِبار مذ تزوج المال بالسياسة. إن معنى التأليف في معظم القواميس العربية هو توليف العناصر الأولى لإبداع مؤلف جديد، لم يوجد مثله من قبل. وليس أخذ الحكايات المكتملة سواء كانت إبداعية أو واقعية، ثم تحريف بنائها وربطها بحكايات أخرى مكتملة. فهذا النوع من التأليف سينتج بدون شكٍّ مسخًا عشوائيًّا، قد يكون ممتعًا للحظاتٍ، لكنه بالتأكيد لن يكون أصيلاً، ولن يصمد طويلاً مثلما صمد مثلاً مسلسل «ليالي الحلمية» للراحل «أسامة أنور عكاشة». منذ أيام نشرت صفحة «ألتراس وزارة الثقافة» وهي من أشهر الصفحات على موقع التواصل الاجتماعي، وتتمتع بمصداقية كبيرة نشرت مجموعة بسيطة للغاية من الأفلام المصرية المسروقة بالكامل من أفلام هوليودية شهيرة. فحاولت أن أكمل القائمة، حيث أعرف أنها أطول بكثير، فلم أجد إلا قلة قليلة من الأفلام المصرية الناجية تأليفًا وروحًا وأصالة، وفي الواقع تعبت وشعرت باللا جدوى، ووجدت أن العكس هو الصحيح أن نرصد أفلامنا غير المسروقة، ونحتفي بها كلَّ يوم وكلَّ ساعة، فحتى سينما هوليود التي يسرقون منها تكتب على أفيشاتها أحيانًا جملة: عن قصة حقيقية. سنجد هنا مَن يجيب عن سؤال استمر قرابة العقدين من الزمان: (الجمهور عاوز كده). إذًا الجمهور المظلوم دومًا يريد أن يرى هذه التوليفة المقيتة المكونة من حي عشوائي وراقصة ومطرب شعبي ورجل أعمال فاسد وبلطجي يشهر سنجته وينتصر على الجميع ثم يموت في النهاية! ولكن المدهش أن هذا الجمهور نفسه ما زال يشاهد كلاسيكيات السينما المصرية بالأبيض والأسود. إذًا الجمهور المظلوم دومًا لا يريد أن يقرأ أهم محطات تاريخه في دراما راقية! ولا يريد أن يرى نماذج من مجتمعه عصامية ومثابرة وناجحة وتنتصر بنقائها ومنظومة أخلاقها على كلِّ عراقيل الحياة، ولكن المدهش أن هذا الجمهور نفسه ما زال يشاهد مسلسل «الأيام» لطه حسين، وهو بالتأكيد لا يريد ترجمة مكتبته العربية بروافدها الثرية المتعددة الإسلامية والقبطية والفرعونية إلى أفلام قد تذهل هوليود نفسها! طيب، كيف نتخلص الآن من هذه المقولة السمجة، والتي ترددت طويلاً؟ كيف نحنو على جمهورنا المظلوم دومًا ونثبت أنه لا يريد المزيد من الركاكة؟ وماذا لو أجبنا عن سؤالهم بسؤال: هل إذا أنتجنا أفلامًا جيدة ومصرية غير مزورة، شريطة ألا تنافسها أفلام رديئة سيمتنع الجمهور عن الذهاب لدور العرض؟! ولأي مدي زمني سيحتمل مقاطعة دور العرض والدراما على شاشات التليفزيون؟!