باستثناء بعض البلدان بوسط آسيا المحسوبة ضمن العالم التركى، والغارقة في أنظمة جمهورية وراثية وديكتاتوريات على نسق ستالين ، وأخرى ملكية لا علاقة لها البتة بالديمقراطية ، وما تسميه أنقرة بجمهورية شمال قبرص وتلك لها ظروفها الخاصة ، بدت التهاني لرجب طيب اردوغان الذي سيتولي مقاليد منصبه اليوم الخميس ، بما فيها تهئنة ساكن البيت الابيض ، خجولة ومتواضعة. وكيف لها ان تكون غير ذلك؟ فالعم سام غاضب جدا، ومؤخرا كشر عن أنيابه في الكونجرس لتفشي الطابع الاستبدادى الذي بات سمة حكام الاناضول. أما قادة القارة العجوز، كان عليهم أخذ قدر من الحيطة والحذر وعدم الاندفاع تجاه من سيحتل سدة الكشك الشهير في شنكاياى خاصة، وأنه لا يمكن تجاوز تقارير منظمة التعاون والأمن الاوروبي التي ذهبت إلى القول بأن الانتخابات الرئاسية التركية التى تمت في العاشر من أغسطس الحالى افتقرت إلى الشفافية والنزاهة والمساواة بين المرشحين الثلاثة ، وإجمالا لم تجر وفق المعايير الأوروبية. ورغم الحشود الغفيرة التى زحفت إلى مقر الحزب الحاكم بحى «بلجت « وسط العاصمة أنقرة فور إعلان نتائج استحقاق خلا من المنافسة الحقيقية ، وبالتوازى كانت الميديا الموالية تزعق هى الأخرى فرحا بالنصر ، إلا أن تلك المظاهر بدت لقطاعات، عزفت عن المشاركة فى التصويت مفتعلة، كما أنها لم تخف غصة أصابت حلوق «جوقة» الفائز، لإدراكهم أن ما حققوه زائف بالجملة، والقاصى والدانى يعرف ذلك، ومهما فعلوا فعلامات الانكسار والسعادة المنقوصة كانت واضحة لا تخطئها عين . ولتأكيد كلامهم اراحوا يسردون الأدلة، دليلا تلو آخر ، منها ما حدث في احتفال القصر الجمهورى الذى أقامه الرئيس المنتهية ولايته عبد الله جول، تكريما للقادم الجديد ، فالابتسامات ظهرت وكأنها انتزعت نزعا لترتسم على الوجوه المستقبلة والزائرة معا. إنها إذن مشاهد اصطناع البهجة ، فالنجاح لم يكن باهرا ولولا تسخير إمكانات البلاد والعباد لحلت الكارثة . وحتى يعلم المواطنون مدى الوهم الذى يسوقه لهم العدالة الحاكم ، ها هى مواقع التواصل الاجتماعي تتداول فيما بينها وبسخرية لاذعة المشاريع العملاقة التى افتتحت قبل الاقتراع بساعات، مثل القطار السريع بين أنقرةوإسطنبول ، تبين فيما بعد أن الافتتاح كان فقط بغرض الدعاية والحصول على الأصوات بعد أن تيقن لهم تراجعهم فى الشارع ، بيد أن المشروع لم يكتمل، وأمامه وقت ليس بالقليل حتى ينتهى تماما . صحيح أن المعارضة حملت نفسها بعض المسئولية فى عدم منع أردوغان من الوصول إلى سدة الرئاسة ، إلا أن إمكاناتها لم تصمد أمام توغل العدالة والتنمية الذى استخدم كل الوسائل للوصول لغايته مهما كانت التكاليف. ولهذا فهى على ثقة من أن ما حدث لا يعنى هزيمتها وفى ذات الوقت ليس فوزا للخصم، ولذا جاء قرار الشعب الجمهوري بمقاطعة مراسم أداء أردوغان اليمين الدستورى أمام البرلمان. وهنا قال كمال كيلتش دار أوغلو، زعيم الحزب، أنه لا يمكن الاحتفاء بشخص تورط هو وأفراد عائلته بقضايا الفساد والرشاوى ويعرف الحرام ولا يعرف الحلال، ونهب أموال الدولة والشعب، مؤكدا أن أردوغان وحكومته قاموا بانقلاب مدنى ضد القانون والدستور، وجعلوا المؤسسات لا هدف لها سوى تمجيد فرد واحد. غير أن أردوغان ماض فى طريقه، فالرسول ( النبي محمد ) إختلفوا حوله، تلك هى مقارناته التى لا تكون إلا مع الأنبياء وليس البشر العاديين، ولأنه رتب كل شئ، جاء بمن مّن عليه منذ سنوات وصعّده فى الحزب ثم الحكومة مستشارا لرئيسها، وبعدها وزير للخارجية، أنه أحمد دواد أوغلو، الذى أصبح اعتبارا من الأمس الأربعاء رئيسا للحزب والوزراء معا، وفى يقينه أن تلميذه لن يعض اليد التى انتشلته من النسيان إلى الشهرة والمجد، وسيكون طوع بنانه حتى تشكيل البرلمان القادم فى منتصف 2015، وبعدها يغير النظام من برلمانى إلى رئاسى وليصبح مثله مثل رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية مع فارق مهم، ألا يكون المجلس الوطنى التركى الكبير ( TBMM ) بقوة الكونجرس. ووفقا لمحللين، فكل المؤشرات تتجه إلى أن داود أوغلو، لن يخيب ظن رئيسه، بل سيضع نفسه رهن الإشارة، أى ساعده الأيمن حتى يصل إلى حلمه وهو «رئيس بكل الصلاحيات»، وقبل ذلك القضاء تماما علي فوبيا « تنظيم الدولة الموازى «، في إشارة إلى أنصار الداعية الإسلامى فتح الله جولين، الذي اتخذ من ولاية بنسلفانيا الامريكية منفا اختياريا له منذ عام 1999. ففي مؤتمر صحفى عقده الخميس الماضى، قال أردوغان إن الشعب التركي بأكمله ينتظر من داود أوغلو السعى بكل الوسائل والإمكانات لتحقيق أمنية «تركيا الجديدة». ولأنه موقن أن ما يطمح إليه سيتحقق لا ريب في ذلك ، فقد وجه تعليماته بسرعة إنهاء الأعمال المتعلقة بمبنى مقر رئاسة الوزراء الذى سيضم مكتبه الرئاسى، وأنشأه على مساحة كبيرة فى مرتفع بمنتزه أتاتورك على طريق إسطنبول ، ليحاكى البيت الأبيض الأمريكى . وكونه على ربوة عالية، فقد صممت شرفاته حتى يمكن للواقف فى إحداها أن يرى صورة بانورامية لأنقرة، وسيتم نقل القصر الجمهورى من مكانه الحالي إلى المقر الجديد المجهز بأحدث الأنظمة التكنولوجية ضد الكوارث الطبيعية والهجمات الكيميائية والبيولوجية والنووية، فضلا عن تجهيز المبنى بأحدث التقنيات التى تمنع التنصت، وهذا هو بيت القصيد، كى لا يتكرر الماضى القريب ويظهر وهو يتحدث مع نجله بلال حول صفقات ونقل أموال إلى آخره. لكن فضاء البلاد يكتنفه الغموض، فاقتصاديا ثمة توقعات متشائمة تقول إن سعر الدولار الامريكي الآخذ بالفعل في الارتفاع سيزداد أكثر مقابل تراجع قيمة الليرة التركية ليصل بعد ستة أشهر من الآن إلى 2.50 ليرة ، وخلال الأشهر الثلاثة القادمة سيرتفع من 2.15 الى 2.35 ليرة تركية. أضف إلى ذلك العمليات الإرهابية التى عادت بوتيرة متصاعدة فى جنوب شرق الاناضول ، وكأنها كانت تنتظر انتهاء الانتخابات الرئاسية ، ورغم أن الحكومة أعلنت استعدادها لبدء المباحثات المباشرة مع قيادي منظمة حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل على التخوم مع العراق دون وسيط ، إلا أن هناك مجموعة مناهضة لعبد الله أوجلان، زعيم المنظمة والذى يقضى عقوبة السجن مدى الحياة بجزيرة إمرالى غرب تركيا، ولا تريد المفاوضات السلمية للتوصل لحل القضية الكردية . غير أن الصحف العلمانية المناهضة لحكومة العدالة والتنمية أكدت أن هذه العمليات ما هي إلا توزيع أدوار وكنوع من الضغوط للحصول على المزيد من المكاسب، وفى الغالب سيحصلون عليها، فهم الورقة الرابحة للعدالة، كى يقتنص الأغلبية فى الانتخابات التشريعية فى يونيو القادم .