المجتمعات السويّة الواثقة لا يجب أن تخجل من الاعتراف بعيوبها. ومجتمعنا المصرى مدعوّ اليوم بشدة لأن يتخلص من عيب طالما أهدر طاقته وقدرات أبنائه. فنحن نعانى من نقيصة اسمها المكايدة والتربص بالآخرين فى سعيهم وإنجازهم. وأخطر ما فى هذا العيب أنه أصبح فردياً ومؤسسياً.. كما أنه لم يعد سلوكاً سياسياً أو حزبياً فقط بل بات ملمحاً ثقافياً أيضاً. هذا الملمح الثقافى عربيٌ بامتياز وليس بدعةً مصريةً فقط. احدث مثال على ثقافة المكايدة والتربص يتعلق بمشروع تنمية إقليم قناة السويس الذى أُعلن عنه رسمياً منذ أيام ويجرى الحديث عنه منذ مدة طويلة. فمن يتابع ردود الفعل بشأن هذا المشروع يلحظ هجوم البعض عليه والتشكيك فيه فى مناخ لا يخفى من المكايدة والتربص والإساءة. والسبب كما هو معلوم أن فكرة المشروع سبق طرحها فى عهد الرئيس السابق محمد مرسى ولكنها تعرضت يومها أيضاً للانتقاد والتربص والتشكيك. وإذا كنا ننتقد ما تعرض له المشروع إبّان حكم الإخوان المسلمين من التشكيك والرفض فإننا ننتقد اليوم بنفس المنطق والمعيار محاولات الانتقاص من المشروع او التشكيك فيه. فهذا مشروع لمصر قبل أن يكون بالأمس فكرة للإخوان المسلمين او بعد ان أصبح اليوم مبادرة أُطلق تنفيذها فى عهد الرئيس الحالى عبد الفتاح السيسي. بالطبع من حق البعض أن يتساءل لماذا تعرضت الفكرة للرفض والتشكيك بالأمس ثم أصبحت محل ترحيب وتأييد اليوم بل ومن حق البعض أن ينتقد عدم وضوح بعض آليات تنفيذ المشروع أو معايير الرقابة عليه. هذا نقاش مشروع وصحى من شأنه مثل كل نقاش هادف أن يصًّوب مسار المشروع عند الحاجة ويطوّره دائماً إلى الأفضل. لكن ليس من حق أحد أن يكيد أو يتربص أو يهيل التراب على مشروع وطنى كبير وواعد طالما حلمنا وطالبنا بأن يكون لدينا مشروعات وطنية كبرى على شاكلته. فليس المهم فى أى عهد يتم تنفيذ المشروع أو لمن سينسب التاريخ يوماً إنجازه لأن الأكثر أهمية أن نتكاتف جميعاً ذراعاً بذراع.. ورأياً برأي.. وجنيهاً فوق جنيه من أجل دعم المشروع وإنجاحه. هذه الروح مطلوبة ليس فقط لقطع الطريق أمام أى مشروع إسرائيلى منافس لكن أيضاً لكى نوظّف لصالح الأجيال المقبلة عبقرية الموقع التى منحتها الطبيعة بسخاء لمصر، هذه العبقرية التى طالما نبهنا إليها جمال حمدان دون أن نلبى نداءه ، بل ان بعضنا كان بالأمس القريب يرى فى مصر (خرابة) وليس موقعاً استراتيجياً عبقرياً ظل كذلك عبر كل العصور برغم ثورات المواصلات والاتصالات التى شهدها العالم فى العقود الأخيرة. قريبٌ من هذا أيضاً الدعوة التى أُطلقت منذ شهرين للانضباط والالتزام المبكر بمواعيد العمل وحث المصريين على التبرع بالمال من أجل الوطن وإحياء المبادرات التطوعية والخيرية. بدا غريباً ومحبطاً أن يبدو الإعلام المصرى فى معظمه (بدفوفه ومزاميره) على هذه الدرجة من الفتور واللامبالاة التى لم تخل أحياناً من الغمز واللمز والتشكيك فى جدوى الحضور المبكر للدواوين والمؤسسات الحكومية. تتضح غرابة رد الفعل حين نتذكر الإحصائيات المخجلة عن عدد سويعات وربما (دقائق) العمل الفعلى اليومى للموظف المصري. والذين استقبلوا بهذا الفتور واللامبالاة الدعوة للانضباط هم أنفسهم الذين طالما تغنوا بتجربة ماليزيا فى عهد مهاتير محمد وحتى الآن والتى يبدو الانضباط والإخلاص فى العمل وإتقانه أحد عوامل نجاحها وأسباب نهضتها. أحسب أيضاً أننا لم نستقبل على الموجة الصحيحة الدعوة لتحقيق إصلاحات جذرية وعميقة لمحاولة الخروج من ركام تخلفنا وتعثرنا الإدارى والإقتصادى والتعليمى حتى ولو كانت هذه الإصلاحات والقرارات لا تبدو (جماهيرية) بالمفهوم السياسى لمن يقدم عليها أو يتحمل المسئولية عنها. حدث هذا فيما يتعلق بقرارات الحد الأقصى للأجور والدعوة للتبرع. فى ملف التعليم مثلاً كنت وما زلت أعتقد أن أحد أسباب تدهور التعليم فى مصر يكمن فى عدم استعداد المسئولين لتحمل تبعة القيام بإصلاح جذرى وعميق لمنظومة التعليم . فلدينا فى الواقع مسئولون لا ينقصهم الكفاءة ولا المعرفة بحقيقة وموطن الداء فى الجسد التعليمى المصرى لكنهم يترددون ويفكرون ألف مرة قبل الإقدام على حركة إصلاح حقيقى لمواجهة (أسباب) تدهور التعليم وليس معالجة (أعراضه). يبقى المسئولون فى مصر فريسة لهذا التردد فى خوض معركة الاصلاح لأنهم (يحسبون) تبعات الإصلاح الجذرى (بحسبة) أخرى يدخل فيها الخوف من الدخول فى أعشاش دبابير أصحاب المصالح والخوف أيضاً من رد الفعل الشعبى السلبي. والشعوب أحياناً لا تتحمس للتطوير والإصلاح الجذرى وتتكيّف مع واقعها ولو كان رديئاً متخلفاً خصوصاً فى مجال التعليم حيث المهم فى النهاية هو الحصول على الشهادة التعليمية الممهورة بخاتم الدولة فى لعبة خداع مزدوج. فالمؤسسة التعليمية تخدع الطلاب بتعليم فاسد وصوري. والطلاب يخدعون المؤسسة التعليمية بالحصول على شهادة تعليمية غير مستحقة بمجموع يجاوز التسعين فى المائة فى الثانوية العامة وبتقدير قد يصل أحياناً الى جيد جداً فى الجامعات. لهذا يجب علينا أن نحيى وزير التعليم محمود أبو النصر وأن ندعو التاريخ لأن يسجل أنه فى عهد هذا الرجل تم حظر الدروس الخصوصية للطلاب للقضاء على أكبر جريمة تعليمية منظمة عرفها تاريخ التعليم فى مصر. وإلى أن يكُلل حظر الدروس الخصوصية بالنجاح علينا أن نقف جميعاً مع وزير التعليم ضد حزب المصالح الشخصية ومناهضة الإصلاح. هذا أخطر حزب للكيد والتربص ينخر فى عظام الدولة المصرية. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم