الذى لايعرفه الكثيرون أن سياسات دعم السلع لم تكن معروفة فى زمن عبد الناصر إلا فى نطاق محدود ومؤقت ولمجابهة ظروف طارئة فى إطار سياسات التنمية المستقلة والتخطيط المركزى بما اقتضته من التسعير الجبرى الذى شمل جميع السلع بما فيها السلع الرأسمالية، وامتد لمعظم قطاعات الخدمات الرئيسية من كهرباء ووقود .. إلخ.. سياسات دعم السلع لا تنتمى للسياسات الاشتراكية ولا لأى سياسات تنموية حقيقية رأسمالية من باب أولى هذه السياسات أصبحت سياسة رسمية ثابتة فى مصر زمن السادات اعتباراً من عام 1973، لمواجهة موجة عالمية من ارتفاع الأسعار فى ذلك الوقت، ثم كعنصر مخفف لآثار انقلاب السادات على السياسات الناصرية الإشتراكية لاحقاً. سياسات دعم السلع فى حقيقتها تنتمى إلى سياسات مكافحة الفقر طبقاً للفكر الرأسمالى الأمريكى والتى وصفت من قبل منتقديها بأنها- فى جوهرها- تهدف إلى مساعدة الفقراء على التعايش مع أحوالهم البائسة. والحق أن التحليل السليم لتطورات أحوال المصريين على امتداد العقود الأربعة الماضية منذ انقلاب السادات على السياسات الناصرية، يؤكد سلامة النقد الموجه لهذه السياسات. لم يجن المصريون منذ أصبحت هذه السياسة نهجاً رسمياً متواصلاُ، إلا المزيد من الفقر والبؤس وافتقاد وجود السلع المدعومة فى أحيان كثيرة، ورداءتها بما يخرجها من القابلية للاستعمال الإنسانى. وقد زادت هذه الأبعاد غير الإنسانية للدعم فى زمن مبارك الذى لم يكف كسلفه السادات- عن تخفيض مبالغها وتقليل أعداد سلعها، كما لم يكف كسلفه عن معايرة المنتفعين بها بحجم المبالغ التى تدرج لها فى الميزانية العامة، وكأنه يدفع هذه المبالغ من جيبه الخاص وليس من موارد الدولة التى يقدمها هؤلاء المنتفعون أنفسهم من كدهم وعرق أيديهم. لقد وصل الانحطاط اللا إنسانى فى زمن مبارك إلى درجة الإعلان المستمر عن أنه لايمكن التخلى إطلاقاً عن دعم الخبز والزيت والشاى والسكر، ذلك لمن كان يسميهم ذلك النظام «محدودى الدخل» مؤكداً أن دعمهم على هذا النحو يشكل ما سماه «البعد الاجتماعى». فالمواطن الفقير ومحدود الدخل لم يكن ينظر إليه كإنسان له احتياجات إنسانية متعددة كالترفيه، والتريض مثلاً، وإنما كمجرد دابة من دواب الأرض التى غاية مناها أن تطول يدها بعض عبوات الشاى والزيت، وأكياس السكر والأرز. سياسات الدعم التى اعتمدها نظام السادات/ مبارك على امتداد أربعة عقود، لم تسمن أو تغن من جوع، وأورثت إلى جانب الفقر عجزاً متزايداً فى ميزانية الدولة أعجزها عن مواجهة أى نفقات عامة يمكن الاعتماد عليها فى تقديم رعاية اجتماعية حقيقية لملايين المواطنين الفقراء ، التى لم تعد فى نظر الحكومات المتعاقبة منذ نهاية سبعينيات القرن الماضى أكثر من أرقام مصمتة تبحث عن لقمة ملوثة من الخبز المدعم الذى لا ينافسه فى الرداءة إلا شقيقاته من السلع المدعمة الموصوفة فى بطاقات التموين. الرئيس السادات نفسه كان قد أدرك مبكراًحجم الخطأ الذى أوقع نفسه فيه فسعى لتخفيض الدعم فى قرارات يناير 1977الشهيرة . لكن القرارات المذكورة تعارضت مع إسطوانة الرخاء الموعود التى كان السادات يعزفها على امتداد العامين السابقين على تلك القرارات، فإنفجر الشعب فى انتفاضة 18 و19 يناير العارمة التى أسقطت شرعية السادات ونظامه، فكان بعدها ما كان وصولاً لحادث المنصة المروع الذى أودى بحياة السادات فى اكتوبر 1981، وأوصل مبارك لمقعد الرئاسة. لكن الرئيس السيسى وحكومته قاما بتخليصنا من هذه الأسطورة. لكن السؤال الحقيقى يصبح ماذا بعد؟ فى الإجابة عن هذا السؤال لم تعد الأفعال وردود الأفعال المتوارثة من نظام مبارك تنفع.علينا البحث عن رؤى ووسائل فعل جديدة ومختلفة. القرارات الأخيرة لم تخلصنا من سياسات الدعم الهزيلة فقط، بل كشفت بحجم ما يختزنه الرئيس السيسى من نوايا الجدية والمكاشفة والإستعداد لتحمل المسئولية بعيداً عن الوعود البراقة والأوهام المخدرة. لقد تراجع السادات عن قرارات يناير 1977 أمام غضبة الجماهير ولكنه استبدل ذلك بسياسات سقيمة أسفرت عن موجات تضخم متتابعة بلا هوادة ولا رحمة ولا سابقة إعلان، موجات جرى تصويرها دعائياً على أنها نتاج جشع التجار وليست آثارا لسياسات الإفقار التى تجرى على قدم وساق وفقاً لروشتة البنك الدولى. القرارات الأخيرة نسفت هذه السياسات المراوغة وهو أمر محمود. الباقى هو أن نتوجه لسياسات تنمية ورعاية اجتماعية حقيقية ومخططة وواضحة المعالم والأهداف، تسعى لانتشال بلادنا من أحوالها ووضعها على طريق التنمية الحقيقية التى تكررت تجاربها فى جنوب شرق آسيا وتركيا والبرازيل وغيرها، وهى سياسات ليس الدعم على الطريقة الساداتية المباركية من وسائلها. لمن يريد أن يتأكد من هذه الحقيقة فإن اعظم تجارب مساعدة الفقراء فى العالم قاطبة هى تجربة»بنك جرامين»فى بنجلاديش، والتى نجحت على امتداد أربعة عقود حتى الآن- فى انتشال أعداد كبيرة من الفقراء من أحوالهم البائسة، وأخرجت الكثير من أسرهم من خطوط الفقر والحرمان، وأكسبتهم مهارات متعددة فى إدارة مشروعات صغيرة فى مختلف المجالات، ونالت إعجاب العالم، فانهال على مؤسسها وصاحبها البروفيسور/ محمد يونس جائزة نوبل وعشرات الجوائز المحلية والدولية، ورغم ذلك فما زالت بنجلاديش على حالها فى ذيل الأمم الفقيرة البائسة بمشاركة جارتيها باكستان وأفغانستان اللتين تماثلانها من ناحية غالبية السكان المسلمة السنية. فلا الحكم العلمانى نهض بها ولا الحكم «الإسلامى» نفع جارتيها، ليبقى الجميع نموذجاً للبؤس والشقاء فى منطقة جنوب شرق آسيا التى تعج بالنمور الناهضة. لمزيد من مقالات أحمد عبد الحفيظ