إذا كنا جادين فى نقد أوضاع الحكم التى قادتنا إلى ثورة 25يناير فلا يمكن أن نتجاوز أو نقلل من التأثيرات السلبية للسياسات الاقتصادية التى تبناها مبارك الرئيس المخلوع ونظامه وكان من نتيجتها ما آلت إليه أحوال البلاد والعباد. ويمكننا مقدما مناقشة أى دفوع يمكن أن يلجأ إليها من يريد الزود عن تلك السياسات، من عينة أن مبارك ونظامه اضطرا لقبول شروط وإملاءات البنك وصندوق النقد اللذين يحملان صفة المؤسسات الدولية، بينما يعلم الجميع أنهما ينفذان سياسات أمريكية مشبوهة حتى إنه يطلق عليهما توأم واشنطن، أو نقبل بأن الدولة المصرية كانت مضطرة للقبول بهذه الشروط وهى فى الحقيقة تدمر اقتصاديات الدول ذاتيا لأن الدولة أو الحكومات التى تولت خلال عهد مبارك لم تملك مصادر للاقتراض - غير البنك والصندوق - للحصول على المال اللازم لتسدد به عجز الموازنة وتوفر السلع الاستراتيجية، وهل هناك حجة أقوى من هذا؟!.. بالطبع «لا»، لكن الانسياق وراء هذه الحجة وأشباهها ينقلنا إلى قضايا أخرى فرعية للابتعاد عن أصل المشكلة وهى هنا السياسات الاقتصادية التى كان النظام يتبعها وأبرز مظاهرها اللجوء للاقتراض من مؤسسات العولمة مثل البنك والصندوق، والقبول بشروطهما التى تنتقص من سيادة الدولة، واللجوء لهذا كحل سهل بدلا من تأسيس اقتصاد وطنى قوى، والسؤال:هل يمكن تنفيذ هذا الأمر الأخير بسهولة؟ الإجابة : «فى عهد مبارك لا»، لكن هذا ليس أمرا مستحيلا فقد حدث فى كثير من الدول التى تشبه حالتنا وفى هذه التجارب الناجحة كان هناك دائماُ رجل دولة شجاع وصاحب قرار مبدع يمتلك فن الإدارة ويستعين بمن يملك المعرفة من أهل الخبرة وليس أهل الثقة وكلها صفات لم تتوافر فى مبارك الموظف البليد. (1) كان نصر أكتوبر 73 قد منح الرئيس السادات شجاعة الانقلاب على الحقبة الناصرية، ولم تمض شهور على إسكات صوت المدافع وانتهاء الحرب، حتى بدت مصر السادات وكأنها تنسلخ من الحقبة الناصرية وتوجهها الاشتراكى، وفيما يخص الاقتصاد فقد اندفع الإعلام الساداتى يصور اقتصاد هذه المرحلة تصويرا كئيبا حتى بدا وكأن الاشتراكية أسلوب مقصود يتم فيه توزيع الفقر بالعدل والتساوى على المصريين وتخلف عنه تركة القطاع العام الثقيلة، وتجاهل الإعلام الساداتى مشاريع التصنيع الاستراتيجية، ورحنا جميعاً نجلد ذاتنا ونتباكى على أن مصر لم تستطع أن تصنع سيارة أو تمخضت التجارب فى هذا المجال عن السيارة الملاكى التى حملت ماركة «رمسيس» وكانت مثار سخرية واستهجان الجميع. واقتنع نفر غير قليل من الشعب المصرى بأن الحل الوحيد للرفاهية يوجد فى نموذج جنة الغرب الرأسمالى وعنوانها أمريكا، ومع حلول عام 1974 بدأت مصر تتبنى سياسة تحول جذرى فى الاقتصاد من الاقتصاد المخطط أو اقتصاد الدولة الموجه إلى سياسة الباب المفتوح Open door policy»» التى اشتهرت باسم الانفتاح، واندفع المغامرون والشطار لتحقيق الاستفادة القصوى من ميزات تلك المرحلة وقوانينها، مستغلين رغبة المصريين فى امتلاك أدوات الرفاهية وعيشها فحولوا هذه الرغبات الاستهلاكية إلى أرباح طائلة زاد منها تحايلهم فى الهروب من الوفاء بحقوق الدولة مثل الضرائب والتأمينات وحقوق الوطن بتجاهل مشاريع التنمية الصناعية والزراعية الاستراتيجية، لكن على الرغم من هذا لم تتخل الدولة أيام السادات عن دورها الاجتماعى وفهم السادات جيدا درس الانتفاضة الشعبية فى يناير 1977 التى تفجرت بسبب رفع بعض أسعار السلع الأساسية فحافظ على دور الدولة ليضمن الاستقرار الاجتماعى والسياسى. (2) ذهب السادات وجاء مبارك رئيسا ليس له مشروع سياسى، ومديراً لدولة لا يملك عقلية المدير المبدع لمؤسسة مدنية أو يملك الثقافة التى تؤهله لاستلهام تجارب التاريخ السابق عليه لإدارة الواقع الذى يعيشه والانطلاق منه للمستقبل، ولم يكن بالحقيقة يملك إلا نظرة ضيقة للأمور والتحديات تتعامل مع المعطيات الآنية ولا ترى لها إلا حلولا محدودة وضيقة فى إطار الخبرة التى اكتسبها خلال عمله نائبا للسادات وهى فترة قصيرة، لذلك فقد مضى مبارك فى سنوات حكمه العشر الأولى ينتهج تقريبا نفس سياسات وتحالفات السادات دون إضافة أو خصم، على مستوى الداخل والخارج . على مستوى الداخل، كان الانفتاح قد أنتج تحالفات جديدة بين النظام وطبقة الأغنياء الجدد من الملاك والتجار، وعلى مستوى الخارج كانت مصر قد أصبحت أكثر اندماجا فى المجتمع الدولى ومؤسساته وتوسعت فى الاقتراض لتنفيذ أحلام السادات فأورثت نظام مبارك تركة ثقيلة من الديون (تخففنا من جزء منها بسبب دورنا فى حرب تحرير الكويت وكان يمكن أن نحصل على أكثر مما حصلنا عليه لو أحسنا المناورة) لكن أيضا كانت هناك عائدات قناة السويس والنفط والسياحة ومصادر دخل أخرى تسمح بانتهاج سياسة جيدة لدعم الفقراء وتحافظ على تماسك الدولة واستقرارها السياسى. (3) ومضت حقبة الثمانينيات وسياسات مبارك الاقتصادية تتراوح ما بين تشجيع الانفتاح والحفاظ على دور الدولة فيما يخص الرعاية الاجتماعية، وبالتزامن كان هناك صعود متنام فى الغرب للسياسات الريجانية «نسبة إلى الرئيس الأمريكى ريجان» والتاتشرية «نسبة إلى رئيس وزراء بريطانيا تاتشر» تؤسس لدور أكبر لليبرالية الجديدة، وقد أصاب العالم مع سقوط الاتحاد السوفيتى شىء يشبه ما أصاب المصريين بعد عبد الناصر ودفعهم لقبول التحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية، فقد كانت شعوب دول المعسكر الشيوعى الذى سقط رمزه الاتحاد السوفيتى وتفكك، كانت هذه الشعوب تواقة للحرية والرفاهية فاندفعت نحوهما وخرج من يبشر بأن النموذج الغربى الرأسمالى قد انتصر انتصارا أخيرا (نظرية نهاية التاريخ)، وتم تقديم سياسات الليبرالية الجديدة وكأنها البديل الوحيد الصالح للتطبيق على الكرة الأرضية تمهيدا لخلق نظام عالمي، يساند ذلك حركة غربية محمومة من أجل دمقرطة النظم السياسية فى مناطق مختلفة من العالم، خاصة تلك النظم التى تقاوم بشكل أو بآخر هذه التوجهات الليبرالية الجديدة التى تسقط الدولة من عليائها، وتم استخدام نموذج الإزاحة العنيفة لزعماء ورؤساء أوروبا الشرقية عبر الثورات الملونة التى حملت وصف الموجة الثانية من الديمقراطية ثم جاءت الموجة الثالثة لتفعل فعلها فى المنطقة العربية من خلال الربيع العربى. وفى التمهيد لهذه الأمواج من الديمقراطية كان لابد من دفع الشعوب لتكفر بحكامها، وزيادة فى هذا الكفر كان لابد من دفع هؤلاء الحكام الأغبياء لتبنى سياسات تتخلى فيها الدولة عن دورها فى التنمية الحقيقية والرعاية الاجتماعية لمواطنيها، ومن أجل الهدفين تم فرض برامج اقتصادية على تلك الدول (تم الترويج لها على أنها برامج إصلاح اقتصادى وأطلق عليها تسمية: «برامج التكييف الهيكلى Syructural Adjustment Programs» وقبلتها للأسف دول كثيرة فقيرة ونامية على مستوى العالم وطبقتها على نظمها الاقتصادية تحت التهديد بسلاحى الديون والقروض.. فما حقيقة هذه البرامج وماذا تفعل فى الدولة الوطنية؟! (4) سياسات وبرامج التكييف الهيكلى التى طبقتها الدول التابعة، مثل حالة مصر فى عهد مبارك، كان تطبيقها شرطا للحصول على قروض صندوق النقد والبنك الدوليين وشرطا لمساعدة هذه الدول فى سداد الديون المستحقة «القديمة» عليها للمصارف التجارية وحكومات الدول الأخرى. وعلى الرغم من أن هذه البرامج مصممة للتعامل مع كل دولة على حدة حسب حالتها، إلا أن هناك سمات وشروطا عامة يتم تطبيقها على كل البلدان، مثل الدفع باتجاه التخلص من القطاع العام وتشجيع الخصخصة وتحرير التجارة والرفع من كفاءة الأسواق الحرة، وتتطلب سياسات التكييف الهيكلى أيضا خفض قيمة العملة المحلية مقابل الدولار ورفع القيود المفروضة على الاستيراد والتصدير وإزالة الرقابة على الأسعار والدعم الحكومي. وفى التحليل العملى لهذه السياسات – كما تخبرنا الدراسات الكاشفة لخطورتها – فإن خفض قيمة عملة الدولة مقابل الدولار يجعل سلع هذه الدولة أرخص للأجانب ويجعل الاستيراد أكثر كلفة ويحد من قدرة هذه الدولة على شراء المعدات اللازمة للتصنيع لأنها أصبحت أكثر كلفة، وحين يتدخل البنك الدولى ليبدو أنه يساعد هذه البلاد بإقراضها العملة الأجنبية لشراء هذه المعدات فهو فى الحقيقة يكبلها بمزيد من الديون. وعلى مستوى الداخل وبعد تطبيق الدولة للتكييف الهيكلى، يمكنها تعويض العجز ما بين الإيرادات والمصاريف التى سوف تزيد بالتأكيد من خلال رفع الضرائب وهو ما لا يحبذه البنك الدولى أو من خلال خفض الإنفاق الحكومى وهو ما يشجعه البنك والصندوق، لكنهما فى الحقيقة يشجعان أكثرعلى خفض وإلغاء دعم الدول للخدمات الأساسية والحاجات الضرورية للمعيشة مثل الغذاء والكهرباء والطاقة والتعليم والصحة، وهكذا تصيب برامج التكييف الهيكلى أول ما تصيب الفقراء فى أكبادهم وتضرب الدولة فى نحرها حين تدفعها للتخلى عن دورها وترك أفراد الشعب الذى يحتاج لهذا الدور بشدة عزلا فى العراء، ولن يجدى هنا تطوع البنك أو الصندوق لمساعدة ضحايا برامج الهيكلة من خلال توفير بعض الخدمات أو دعم صندوق لإقراض المشاريع الصغيرة، (مثل الصندوق الاجتماعى) هذه العروض (الشو) التى لا تزيد على صبغ السيدة الشريرة لوجهها بمساحيق التجميل الرخيصة التى تعجز عن ستر قبحها، ولا يمكن أن تكون بديلا لدور الدولة كما أن مشاريع التطريز وورش الأحذية لا يمكن أن يقوم عليها اقتصاد دولة قوى. (5) وكما تشير تقارير غربية، فإن العديد من الدول التى فرض عليها البنك الدولى وصندوق النقد تطبيق سياسات التكييف الهيكلى، قد عانت شعوبها تدهورا فى مستويات المعيشة وفى الحصول على الخدمات العامة ودمُرت فيها البيئة وتراجعت فرص العمل، ومئات الدراسات التى صدرت والمقالات التى نشرت توضح الأثر السيىء لسياسات التكييف الهيكلى الكئيبة، التى دفعت كثيرا من الشعوب للانتظام فى حركات احتجاجية لمكافحة نهب وسرقة أراضيها ومصادر أرزاقها، واندفعت تعبر عن غضبها بعنف ليسقط جراء ذلك آلاف من الضحايا حدث هذا فى عدد من دول الشرق الأوسط فى الجزائر (أكتوبر 1988) وفى السودان (ديسمبر1990) وفى دول أخرى فى أفريقيا وآسيا وأوروبا الشرقية وكان سببا مهما لما حدث فى مصر25يناير الماضي. وها هى ذى النيران تمسك الآن بثياب الدول والحكومات التى ساعدت هذه القوى الشريرة التى تسيطر على اقتصاد العالم وتملك مفاتيحه وتسعى فى نشر سياساتها الشيطانية لإسقاط أنظمة الحكم العميلة التى تعطل مشروعها بالديكتاتورية أو التمسك بالهوية الوطنية، لتحقيق هدفها النهائى فى جمع الدول تحت سلطة حكومة عالمية تمثلها هيئة مثل الأممالمتحدة ويحرسها شرطى عالمى مثل حلف الناتو لفرض السياسات الاستعمارية الجديدة على الدول المستضعفة والشعوب مسلوبة الإرادة بالقوة مرة وبالحيلة ألف مرة.