تفرض نتائج الانتخابات الرئاسية، على المجموعات السياسية النشطة، والتى مثلت خط الدفاع السياسى الأول عن مبادئ 25 يناير على الأرض، إجراء مراجعة لتجربتها خلال السنوات الثلاث ونصف الماضية، سواء على صعيد المنطلقات الفكرية أو الخطاب أو التكتيكات فى مسعى لبناء استراتيجية تحرك جديدة. وإذا كانت الحكومة المقبلة (رئيسا وبرلمانا ووزارة)، مطالبة باتخاذ سياسات وإجراءات لردم الفجوة بين الدولة وبين الشباب الذى يمثل ثلثى المجتمع، فإن المجموعات النشطة فى المقابل عليها امتلاك شجاعة عدم انكار الواقع، أو التعالى على المجتمع، والتوقف عن تلفيق تخريجات نظرية لنفى الآخر، فى معرض بحثها عن مبررات أخلاقية للبقاء فى عزلتها الاختيارية داخل «الجيتوهات الإليكترونية»، و«جمهورية وسط البلد». إن اضطلاع «جيل 25 يناير»، بمسئوليته لحماية جنين الثورة، يتطلب، أولا- معالجة الخلل فى مفاهيم أساسية تسبب اجترارها فى تكريس حالة «يسقط.. يسقط»، دون السعى إلى تجذير الثورة فى الواقع الاجتماعي، وثانيا الانتقال من مرحلة الاحتجاج كنمط وحيد للتغيير، إلى البناء السياسي، عبر صياغة استراتيجية جديدة توازن بين الحلم والواقع، وبين تكتيكات التغيير من أعلى والتغيير من أسفل. ولا يمكن علاج الخلل فى المفاهيم التى أسست لفوران حالة «يسقط.. يسقط»، من دون محاولة فهم السياق التاريخى والظروف الموضوعية التى نشأت فى ظلها هذه المجموعات، وتجب الإشارة فى هذا السياق إلى 6 ملحوظات أساسية، هي: 1- اكتسبت هذه المجموعات، بفعل التحرك، فى فضاء ثورة الاتصالات والمعلومات، وعيا كونيا بقيم الديمقراطية، فى وقت لم يمتلك فيه أغلبية أعضائها سواء لصغر سنهم أوانعدام خبرتهم الحزبية، الحد الأدنى من المعرفة والمهارات السياسية، اللازمة لإدراك تعقيدات الواقع السياسى والاجتماعي، مما أوجد فجوة عميقة، بين حلم الديمقراطية وبين قدرة السعى على تغيير الواقع من أسفل. 2- انتجت هذه الفجوة ثلاث ظواهر أساسية، أولها، التمرد السلبى على النظام الأبوى الذى حكم العلاقة تاريخيا بين الدولة والمجتمع، وثانيها، ظاهرة «الناشط الحالم»، وليس «الثورى الحالم» الذى يسعى إلى تحويل الحلم إلى بناء سياسي، وثالثها، اتساع الفجوة مع الأجيال والشرائح الاجتماعية التى لم تتحرر من أسر هذه العلاقة الأبوية، مما عمق أزمة الثقة المتبادلة وفاقم من حوار الطرشان السائد بالمجتمع منذ 25 يناير وحتى الآن. 3- لم تبن هذه المجموعات التى ظهرت على سطح السياسة قبل إزاحة مبارك بسنوات قليلة، استراتيجيتها من البداية، على الالتحام بالجماهير والسعى لبناء تنظيماتها السياسية، وذلك بسبب القيود الأمنية والسياسية وضعف الإمكانات، ولكنها اختارت استراتيجية الضغط المباشر على النظام من أعلي. 4- باغتت «ثورة» يناير، هذه المجموعات الهزيلة عدديا وماديا وتنظيميا، بينما كانت فى طور التكوين، الذى يفتقر إلى المعرفة والنضج والوعى الثورى الضروري، لقيادة هذه الانتفاضة والعبور بها إلى مرفأ الأمان. 5- انشغلت هذه المجموعات منذ إزاحة مبارك وحتى عزل مرسي، بمصارعة القوى التقليدية التى سعت إلى إخراج الشباب من المعادلة، والتحكم فى المسار السياسي، عن الانتباه لأهمية ولوج طريق البناء. 6- تسببت قوة الدفع التى خلفتها، «ثورة» يناير، فى تضخم حلم الديمقراطية، وإيجاد وعى زائف لدى هذه المجموعات، بأن خروج الملايين إلى الشوارع، كان كافيا لإيجاد معادلة سياسية جديدة تماما، دون تغيير ميزان القوى على الأرض، وبأن إطلاقها شرارة «الثورة»، يعد فى حد ذاته إنجازا، كافيا لانتزاع شرعية دائمة للتحدث باسم الشعب، متجاهلة أن مثل هذه الشرعية لا يمكن أن تستقر فى الفراغ، ولكنها تحتاج إلى تأييد ووعى جماهيرى وقوة منظمة على الأرض. إن إجراء مراجعة شاملة لتجربة السنوات الثلاث ونصف الماضية، بات ضروة حتمية، على هذه المجموعات، من أجل ترميم العلاقة مع القطاع الأوسع من المجتمع، المؤيد للمسار السياسى الحالي، والبناء على المكاسب السياسية التى تحققت منذ 25 يناير، وهو الأمر الذى يتطلب إعادة النظر فى منطلقات أى تحرك مقبل، وتأسيسها على مفاهيم جديدة، لا تقفز على صيرورة التحول الديمقراطي، ومنطق الوقت، وثقافة المجتمع، وفى هذا الصدد يمكن تسليط الضوء على أربع أفكار أساسية، هي: أولا- إن الدولة تتحرك فى مساحة الفراغ التى يوجدها ضعف المجتمع. وثانيا- إن الديمقراطية لا يمكن فرضها بالأمر النخبوى المباشر، ولكنها تنضج وتستقر عند هذه اللحظة التى تصل فيها علاقة القوى بين المجتمع والدولة إلى التوازن. وثالثا- إنه لا يمكن بناء ديمقراطية على أنقاض دولة، مثل أنه لا يمكن تحقيق تقدم، بدون انحياز الحكم، لقيم الديمقراطية، كسيادة القانون والمواطنة والقضاء على التمييز ومكافحة الفساد، والتوزيع العادل للثروة. رابعا- إن ملء الفراغ السياسى بالمجتمع، لا يمكن أن يتحقق بدون العمل على الأرض، ووسط الجماهير، لتغيير وعى الفئات والشرائح المهمشة، عبر الاشتباك مع قضاياهم، والدفاع عن مصالحهم المشروعة، تمهيدا لإيجاد بيئة مواتية لتنظيم صفوفهم فى أحزاب ونقابات واتحادات وجمعيات أهلية، وحشدهم لبناء شبكات مصالح جديدة، وهو ما يوجب على الشرائح المؤمنة بمبادئ الثورة، السعى إلى امتلاك المعرفة والأدوات اللازمة لبناء تنظيم سياسى أو أكثر، وصياغة استراتيجية تحرك جديدة لا تصطدم بالمجتمع. فى المقابل، فإن الحكم، الجديد، مطالب، بإعادة بناء الثقة مع الشباب المسيس، باتخاذ سياسات، توفر لهم الدعم المادى والمعرفي، وتفتح أمامهم المسارات الدستورية للحركة والنمو الطبيعى على أرض مستوية للمنافسة السياسية العادلة، دون إقصاء أو تمييز، بما يسمح بانتقالهم من مربع الاحتجاج إلى البناء السياسي، ويضمن عملية تحول ديمقراطى آمن، لا يتطلب كل بضع شهور أو سنوات الخروج إلى الشارع.