فى مؤتمر القمة الخامس والعشرين فى الكويت اقترح الرئيس التونسى منصف المرزوقى على القادة العرب تبنى الرؤية الإستراتيجية لتقرير التكامل العربى الذى اصدرته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربى آسيا، المعرفة اختصارا بالإسكوا، الشهر الماضي، وشرفت بأن أكون محرره الرئيس. منذ إنشائها فى العام 1973 ظلت لجنة الأممالمتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربى آسيا (الإسكوا) فى البلدان العربية فى منطقة غربى آسيا تستهدف دعم التنمية الاجتماعية والاقتصادية فى بعض البلدان العربية الواقعة فى منطقة الخليج والجزيرة العربية والمشرق العربى، والتحقت السودان فى 2008، من خلال التعاون والتكامل الإقليمى وتقديم العون الفنى وتصميم وتنفيذ المشروعات التنموية وفق احتياجات وأولويات المنطقة، وفى ضوء الإمكانات الهائلة التى يمكن أن تتأتى من التكامل العربى الفعال فى عموم الوطن العربي، فقد سعت اللجنة لتوسيع نطاق عملها، بقيادة امرأة عربية نابهة ومقدامة، ميزت نفسها منذ عقد بقيادة إعداد تقارير التنمية الإنسانية العربية التى كنت أيضا مؤلفها الرئيس المؤسس. اتجه التوسع غربا، بأمل أن تضم فى النهاية جميع البلدان العربية الأعضاء فى جامعة الدول العربية، فتصبح لجنة الأممالمتحدة الاقتصادية والاجتماعية للبلدان العربية. وقد تحقق إنجاز مهم تجاه هذا الهدف فعلا حيث انضم إلى المنظمة فى العام 2012 كل من ليبيا وتونس والمغرب. فى ضوء هذا التوسع، وخاصة مع اكتماله، يمكن أن يشكل التقرير المشار إليه، وما يليه من تقارير فى مجال التكامل العربى، الظهير الفكرى والمعرفى لتحويل التوسع الجغرافى للمنظمة إلى نقلة نوعية فى مضمار التكامل العربى الفعال فى الوطن العربى عامة، لا سيما فى المنظور الحضاري، بما يسهم فى إقامة النهضة الإنسانية فى ربوع الوطن العربى وإكساب الأمة العربية العزة والمنعة مما ييسر تبوأها مكانة مستحقة فى العالم المعاصر. وقد يستغرب البعض تجديد الدعوة إلى التكامل العربى فى وقت تظهر فيه الأمة منقسمة ومتناحرة. إلا أن هناك مبررات موضوعية ومعنوية لإعادة فتح ملف التكامل العربى. إذ تسعى بلدان العالم جميعها، حتى العماليق منها، للانتماء لكيانات أكبر خاصة فى عصر العولمة والمنافسة الشرسة هذا، لكن الدول العربية ما زالت تواجه العالم الخارجى، وتحديات المنطقة فرادى، الأمر الذى يفوّت على العرب ثمار التعاون الوثيق، ناهيك عن التكامل، فى مضمارى التنمية الإنسانية والأمن القومى، كليهما. كما قد نجمت عن عقود طويلة من محاولات التنمية القُطرية فى ظل الفرقة فى الوطن العربى زمرة ضخمة من المخاطر والتحديات، تعوق أى مسيرة جادة للنهضة الإنسانية، وما من علاج ناجع لها، إلا فى التكامل الحضارى العربى الفعال. فكانت حصيلتها انتشار نمط استملاك الريع وتفشى البطالة والفقر والظلم الاجتماعى فى الكثير من البلدان العربية. وليس مستغرباً أن يعتبر تراكم هذا الظلم الاجتماعي، على نطاق واسع أحد الأسباب الرئيسية للانتفاضات الشعبية فى المد التحررى العربي. وكما يتوقع، تبوأت غايات الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية صدارة مطالبها. ورغم الإخفاقات والعثرات التى منيت بها مسيرة التكامل العربى فمازال الحلم به متمكنا من وجدان الشعوب العربية، حيث يؤكد استطلاع حديث للرأى أن الجمهور العربى يعتبر شعوب الوطن العربى أمة واحدة تفصل بين أبنائها حدود مصطنعة، وإن تميّز كل شعب بسمات خاصة. وقد باتت الدول العربية تعانى تحديات جديدة نجمت عن محاولات قوى عالمية وإقليمية إجهاض المد التحررى العربي. فبعد أن عجزت هذه القوى عن منع النزوع الشعبى إلى الإطاحة بأنظمة الاستبداد، انتقلت إلى محاولة استيعاب الثورات الشعبية وإجهاضها. نهاية، فى الوقت الحالى تبدو سفينة الوطن العربى تتقاذفها أمواج عاتية فى بحر لجج. وأشد ما تحتاج إليه مثل هذه السفينة هو مُوصلِة (بوصلة) ملاحية تحدد بها المقصد وتهدى الرحلة على الطريق إليه. ومن هنا فإن طرح الفكرة مجددا يمكن أن يقوم بدور المبشر وحادى القافلة الهادى على الطريق. وهكذا نرجو أن يصير هذا التقرير. فى هذا المنظور ينهض التقرير، خاصة فصله الأخير، كرؤية استراتيجية مبدئية لتكريس التكامل العربى الفعال، بأوسع مناظيره، أى التكامل الحضارى العربي، سبيلا للنهضة الإنسانية فى عموم الوطن العربي، وصولا لإقامة منطقة المواطنة الحرة العربية. فما الجديد فى هذا التقرير؟ يضم التقرير بين دفتيه الموضوعات التالية وهى مفهوم شامل للتكامل الحضارى العربى ينغرس فى تراث العمران البشرى لابن خلدون وينهل من العلوم الاجتماعية الحديثة. وتقييم نقدى لجهود التكامل العربى على الصعيدين الرسمى والشعبي، منذ منتصف القرن العشرين حتى الآن. وتقييم قياسى يعتمد أفضل الأساليب العلمية المتاحة لتبعات مسار التكامل الاقتصادى العربى الراهن، وينتهى بحزمة من المقترحات التوحيدية اليسير اتخاذها قرارات للقمة العربية، ورؤية استراتيجية طموحة للتكامل الحضارى العربى سبيلا للنهضة الإنسانية وإقامة منطقة المواطنة الحرة العربية فى عموم الوطن العربى. لماذا تعثر التكامل العربى الرسمي؟ أحد الأسباب الرئيسة فى تراجع التكامل العربى هو قصور البنى التنظيمية الرسمية التى قامت على هذا الجانب المحورى من إمكان النهضة فى الوطن العرب، وكان من ورائها الطابع القطرى الضيق لأنظمة الحكم. فقد فوتت هذه الأنظمة المتقوقعة قطريا، حتى عند انتظامها فى مؤسسات كان المفترض أن تكون عبر-قُطرية أو فوق-قُطرية، اغتنام الفرص الهائلة التى يتيحها التكامل العربى الحق لتنمية البنية الإنتاجية، ومن ثم التبادل التجارى والحضارى فى السياق السليم للتنمية الإنسانية. وأهدرت من ثم، الاستفادة من الطاقات الهائلة التى يتيحها مشروع تنموى يعتمد التكامل العربى العميق وفق مشروع تاريخى لنهضة إنسانية يقوم على الحكم الديمقراطى الصالح فى عموم الوطن العربى واكتساب المعرفة ونهوض المرأة، وإحياء الثقافة العربية المستنيرة، الذى يسنده إرث حضارى وتاريخى مشترك لا يتوافر لأى مجموعة أخرى من البلدان المتجاورة جغرافيا فى العالم المعاصر. غالبية القوى الدولية الكبرى وقفت ضد أى مشروع عربى يرمى إلى إقامة كيان اتحادى أو تعاونى مستقل وفاعل للعرب، وأدّت دورا حاسماً فى إجهاض أى مشروع ينشأ أو إضعافه. لكن لعل السبب الرئيسى لفشل جهود التكامل العربى هو أن أنظمة الحكم العربية لم تكن تمثل شعوبها ولا تخضع للمساءلة أمامها، ومالت مقاليد السلطة والثروة فيها للتركز فى ثلة صغيرة أو شخص واحد على رأسها، فبعض أنظمة الحكم هذه كان يرى أنه يستمد الشرعية والأمن من القوى المتنفذة فى الساحة الدولية وفى المنطقة، وخاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل، وبالتالى لا حاجة بها إلى الحرص على مصالح المواطنين أو الأخذ بأولوياتهم. وللحديث بقية.. لمزيد من مقالات د . نادر فرجانى