منذ صدور قرار "محكمة القاهرة للأمور المستعجلة" فى الثالث من مارس الجاري، بحظر نشاط حركة حماس – مؤقتا - فى مصر (إلى حين الفصل فى الدعوى الجنائية التى تقوم على اتهامها باقتحام السجون خلال ثورة 25 يناير 2011) وردود أفعال قادة حماس لا تكاد تتوقف حتى اللحظة. وهى فى مجملها تؤكد أن الرهان على طرح حمساوى ناضج فى القادم من الأيام، أو على أن الحمساويين، بمرور الوقت، سوف يقلعون عن بعض خطابهم الدعائى الذى لم يعد قابلا للصرف، هو رهان فى غير محله. بل وربما لا يعد من قبيل المبالغة القول بأن نمط الاستجابات الحمساوية فى إدارة أزمتها الراهنة، يعيد إنتاج بعض فصول المشهد المصري، وتحديدا ما فعلته قيادات جماعة الإخوان فى مصر لحظة وصول درجة استعصاء علاقتهم بالأغلبية الكاسحة من الشعب المصري، وبمؤسسات الدولة المصرية، إلى الذروة قبل أيام من ثورة 30 يونيو. ويؤكد فى ذات الوقت أن “الطبعة الفلسطينية” للإخوان المسلمين تشاطر “الطبعة المصرية” بؤس القراءة لتطورات الأحداث والتعاطى معها. فاعل شبه دولة فرغم التطور المفترض فى مصالح حركة حماس، كونها انتقلت (بعد السيطرة على غزة) من خانة “فاعل ما دون الدولة” إلى خانة “فاعل شبه دولة”، إلا أن حدود ما هو حركى وما هو سلطوى فيها يبقى ضبابيا وغير محددة بدقة، حيث حشدت “حماس” أنصارها ومؤيديها فى الجهاز الإدارى داخل قطاع غزة (بل وداخل منظمات غير حكومية أيضا) واعتمدت بشكل كامل على جناحها العسكرى لتعزيز قوات الأمن فى غزة. أى أنها فى الحاصل الأخير راعت مقتضيات بقاءها كحركة وهى بصدد إدارتها (كسلطة) لقطاع غزة، فى الوقت نفسه، الذى لا يبدو فيه أنها تولى اهتماما كبيرا لبعض تفضيلات جمهورها كسلطة (أى شعب القطاع). ناهيك عن أن “حماس” لم تتمكن من الانتقال من التنظيم الحديدى المغلق التابع للإخوان المسلمين، إلى حركة شعبية فلسطينية مقاومة. وهذا بالضبط ما فعلته جماعة الإخوان فى مصر، حيث مارست السلطة بمنطق الحركة ومقررات التمكين، واستمر حزبها “الحرية والعدالة” فرعا للجماعة. ولهذا كله، ليس بمستغرب أبدا ألا تفهم “حماس” حتى الآن أن التصرف كفصيل وطنى فلسطينى وليس كفرع لجماعة الإخوان المسلمين كان هو الحل الأوحد الذى أمامها للتعامل مع “مصر ما بعد 3 يوليو” تحديدا، والخيار الأمثل لإدارة علاقاتها فى ظل واقع إقليمى جديد. والشاهد على ذلك عدم انصياع “ حماس” لمساعى بذلتها بعض الأطراف الحريصة على العلاقات المصرية- الفلسطينية، طالبت الحركة باعتماد سياسة النأى بالنفس(أقله سياسيا وإعلاميا) وإبقاء العواطف الخاصة التى تحتفظ بها الحركة حيال “الجماعة الأم” فى الصدور، انطلاقاً من قاعدة تغليب مصلحة “الجماعة الوطنية الفلسطينية” على مصلحة “الجماعة الإخوانية”. ملفات مضغوطة إن هذا النهج من قبل “حماس” يثير التساؤل بشأن العلاقة المركبة والتفاعلية بين عملية صناعة القرار داخل الحركة، وبين ما يرتبط بالبعد الوطنى الفلسطينى وذلك المرتبط بالمشروع الإخوانى العابر للحدود، خاصة وأن سياسات حماس إزاء التحولات السريعة والمتلاحقة التى شهدها الإقليم على مدار السنوات الثلاث الماضية، قد أمدتنا بقرائن، يرقى بعضها إلى مستوى الأدلة، على أن أية محاولة لبلورة سيناريوهات متماسكة تتعلق بمستقبل “حماس” كحركة وكسلطة وكفاعل سياسى فلسطيني، والتغيرات فى بنيتها التنظيمية وأدوارها الاجتماعية والسياسية، وأيضا خريطة علاقاتها وتحالفاتها العربية والإقليمية والدولية، تتطلب قبل ذلك وضع تصورات محددة حول قضايا متعلقة بالحركة، أهمها: أولا: ما يرتبط بالعلاقة المركبة والتفاعلية بين المكون الأيديولوجى والسلوك السياسى للحركة. ثانيا: ما يرتبط بصناعة القرار داخل الحركة، وارتباطه بديناميكيات متعددة، وغير متجانسة (كالبنية التنظيمية للحركة ووظيفتها- تفضيلات جمهور الحركة – تحديات الفرص السياسية). ثالثا: ما يرتبط بالبعد الوطنى الفلسطينى وذلك المرتبط بالمشروع الإخوانى العابر للحدود، والآخر المرتبط بالتحولات الجارية داخل الساحة الفلسطينية وكذلك فى البيئة العربية والإقليمية، ومدى تأثير هذه الأبعاد على صناعة قرار الحركة. التغير التكيفى والبرنامجى وفى هذا السياق يتعين لفت الانتباه إلى أن حركة حماس وعلى امتداد تاريخها لم تشهد سوى نمطا واحدا من أنماط التغيير فى السياسات، ألا وهو “التغير التكيفي” إذ لجأت الحركة أحيانا بهدف التكيف والمتغيرات السياسية من حولها، إلى إحداث تغييرات تكتيكية محددة، بدا فيها أن اهتمامها الموجه لقضية محددة ارتفع أو انخفض، مثلما حدث إبان مرحلة أوسلو. أما ما يتعلق بفرص حدوث تغير فى أهداف الحركة؛ أو توجهاتها، فتكاد تكون منعدمة، إذ أن هذا يعنى ببساطة تعرض الحركة لتهديد وجودي، بتغيير السبب المنشئ للحركة نفسه. وفى المسافة الوسط بين هذين النوعين من التغيير يقع ما يسمى ب “التغير البرنامجي” وفيه تعمد الحركة إلى تغيير برنامجها السياسي، على نمط ما فعلت منظمة التحرير الفلسطينية، أو حتى تلتزم سرا بالتخلى عن “المقاومة المسلحة”. وهذا النوع من التغيير وإن كان حدوثه أمر غير مستحيل، على ضوء تجارب سابقة لحركات مقاومة مسلحة، إلا أن تحققه يأتى بشكل تدريجى وعلى مدى زمنى طويل. ولا يتم من دون مقابل.. أو من دون أن يتغير ميزان القوى الداخلى للصراع، ويميل لصالح الحركة، بحيث يمكنها من استيعاب وتحمل الكلفة السياسية المرتفعة لمثل هذا التغيير. وفى كل الأحوال، فإن مثل هذا التغير كان من المتصور حدوثه أيام نظام الإخوان فى مصر، ومن خلال الاستراتيجيات التى بنيت على استدامته، حيث راهنت كلا من واشنطن وتل أبيب على دور وظيفى ل “القاهرة تحت مرجعية الإخوان المسلمين”، بحيث تتأسس العلاقات المصرية – الغزاوية علي: فتح المعابر، إغلاق الأنفاق، وقف سياسة عسكرة قطاع غزة، تأبيد التهدئة، ومن ثم تغيير الوضع الوظيفى لحركة حماس !! الأولويات المتغيرة الآن، وبعد التغيير الذى حدث فى مصر وسقوط نظام محمد مرسى وإخوانه، كل هذا لم يعد واردا على الإطلاق. فى ذات الوقت الذى تبدو فيه حماس منصرفة لترتيب أوضاعها الإقليمية وتحالفاتها القديمة – الجديدة. وفى هذا السياق قد يبدو صحيحا القول بأن المياه بين حركة حماس و”المحور الإيراني” لن تعود إلى مجاريها السابقة... فحاجة الأطراف لهذه العلاقة تبدلت بتبدل أولوياتها، وقدرة ذات الأطراف على الوفاء باستحقاقات العلاقة كما كانت فى شكلها القديم، قد تغيرت أيضا، لكن هذا لا ينفى على الإطلاق أن القطع والقطيعة لن يكونا واردين فى قاموس العلاقة بين أطراف هذا المحور(إيران وحزب الله بالذات) وأحد مكوناته السابقة (أى حماس). وربما تكون علاقة حماس العضوية بجماعة الإخوان المسلمين (السنيّة) الحافز الأكبر لدى طهران على التقرب من حماس ودعمها، حتى تدرأ عن نفسها الاتهامات باعتماد سياسات وتحالفات مذهبية فى المنطقة، وليس بوارد أن تطلب طهران من “حماس” الانفصال عن الإخوان كثمن لعودة العلاقات معها إلى ما كانت عليه قبل الأزمة السورية. وبناء عليه، فإن مطالبة البعض لحركة حماس بفك ارتباطها مع الإخوان فى مصر، يعد (على حد قول المستشار السياسى السابق لأبومازن “نبيل عمرو”) من قبيل السذاجة المفرطة، خاصة وأن عدم انصياع “حماس” لهذا المطلب لا يعود فقط لأسباب تتعلق بالبعد الأيديولوجي، وإنما لأسباب مصلحية أيضا. بل إن ارتباط حماس العضوى بالإخوان يبقى الشرط الأهم لاحتمالات نجاح حماس فى العودة بعلاقاتها مع طهران إلى بعض ما كانت عليه قبل الأزمة السورية. الخلاصة إذن أن “حماس المحظورة” فى مصر ستمضى قدما على طريق “الجماعة الأم”، وستصر على السير فى ركابها أبدا.