وتنهال الطرقات فوق باب بيت «عنتر» المختبئ فى الفراش.. تحت الغطاء.. فيحسبها الطرقات طرقات «الشوم» فوق رأسه فى سجنه الرهيب.. لكن الطرقات تتعالي في الخارج.. فى الخلاء.. ويدوي صوت: يا عنتر. ويتذكر إن كان له مثل هذا الاسم: «عنتر» فى سالف الأزمان.. ويجاهد ليخرج من الفراش.. ويجاهد ليوارب الباب.. لينزلق منه داخلا إلى الردهة فى الضوء الشحيح: «المنجي» «الرفيق».. وقد ارتدي جلبابا أبيض قصيراً.. من أسفله بنطال أبيض قصير.. وفوق رأسه «طرحة» بيضاء مفرودة.. وفي قدميه «شبشب» جلدي قديم... وقد تدلت لحيته حتي منتصف صدره.. وسمعه يصرخ: السلام عليكم يا أخ الإسلام. فأومأ له. وسمعه يصرخ: ما الذي يسجنه فى بيته طيلة وتلك العقود من الأزمان؟ لقد رحل «الفراعين» «حكامه» بالموت والقتل والانزياح.. وعادت الدولة الي حظيرة الإيمان. وغمغم له «عنتر»: إنه لم يعد يعنيه مثل هذه الأحداث.. فهو ممزق.. مفتت فقد كينونته كإنسان. إنه مثل كوب تهشم وتناثر زجاجه فى الخلاء، وانه لا يزال يعيش فى سجنه الذي كان.. ففي كل صباح تعوم داخله إليه فى الغيوم.. «فرقة التعذيب».. وتنهال فوق جسده بالعصي والشوم وجريد النخيل والسياط.. وهو لا يحس ألما... وعند اخر النهار تقوم فرقة التعذيب خارجة من البيت فى الغيوم. ويصرخ عليه «المنجي» «الرفيق»: إنه لن يبرأ إلا بعد أن يأخذ ثأره من «الكفرة الملاحيد». من أجل ذلك أرسلته «الشيخة» إليه.. وحددت له اليوم موعدا للقاء. ودفع «عنتر» فى خارج البيت.. وأركبه عربة نصف نقل كانت في الخلاء تحمل أقفاصا من الجريد. وانطلق يقود العربة فوق الطريق: إنه يملك «محلا» لبيع الدجاج أهدته اليه «الشيخة».. وهي التي تمده بالدجاج من مزرعتها التي في الصحراء. وسأله: ما الذي يعمله فى هذه الأيام؟ فقال: إنه لا يعمل منذ خرج من سجنه الرهيب وتمتم له إن «الشيخة» ستهدي إليه مثله «محلا» لبيع الدجاج. وعامت العربة فى الغيوم وظلت.. ثم خرجت فى صحراء وظلت.. وتوقفت أمام مزرعة كبيرة مسورة لتربية الدجاج، وهبط «المنجي» من العربة.. وتناول ذراع «عنتر» داخلا معه في مزرعة الدجاج.. ليفاجأ «عنتر» بهم «رفاق الخلية» متربعين تحت الأشجار.. مرتدين الجلابيب القصيرة البيضاء.. وفوق رءوسهم «الطرح» المفرودة البيضاء. وقد تدلت لحاهم حتي منتصف الصدور.. وهم يقرأون فى كتب قديمة صفراء.. فى صوت كالصراخ. بينما «المنجي» يشق الطريق وإلي جواره «عنتر» بين عنابر الدجاج. وتوقف «عنتر» أمام الحجرات الكثيرات المتلاصقات. وقصد الحجرة الأخيرة: «خلوة» «الشيخة»، ودفع عنتر إلى الباب. وتلمس «عنتر» «الخلوة» في الضوء الشحيح.. فتهادى اليه صوت راقص رقراق. وعليكم السلام يا أخ الإسلام/ وأمسك «عنتر» الصوت الراقص الرقراق.. ليقوده إلى خيمة عالية سوداء.. منتصبة فى صدر «الخلوة».. لا يبين منها غير عينين.. من ثقبين.. تتوهجان. وأمامها الخيمة السوداء فوق حامل خشبي مصحف كبير.. و «منقد» فيه جمرات يتلوي منها دخان.. وإلي جوارها الخيمة السوداء طبق فيه تمرات ومسواك.. ومسبحة طويلة من «نقا» الزيتون.. ورصة عالية من كتب قديمة صفراء.. وفى اخر «الخلوة» «صوار» من النحاس. و «قبقاب». و اشارت إليه «الشيخة» للجلوس. وتربع أمامها فوق الحصير: انها تعرفه منذ ألف عام.. فهو «عنتر» الفارس الهمام.. الذي حقق فى «الجاهلية« الانتصارات ل »الأعراب«. فهو الذي حارب جنود «الملك المنذر» وحده.. وأحضر مهر «عبلة»: النوق العصافير، وهو الذي استعان به «كسري» ليكسر الأبطال الصناديد. ولقد استدعيته الان في الإسلام لينصر الإسلام والمسلمين.. ويعيد «الخلافة الإسلامية» إلي الديار. وهي تعلم عنه كل شىء.. فهو العبد الحائر بين أبوين: الأسود والأبيض. لا يعرف من فيهما أبوه. وتعلم أنه فقد حبيبته «عبلة» كما فقد حصانه «الأبجر»، وحين تعود إليه حبيبته «عبلة» وحصانه «الأبجر» يعود إليه اليقين. وعندما يعلم من أبوه وكذلك «الرفاق». إن له «خلوة».. عليه أن يقرأ فيها كل الكتب القديمة الصفراء.. عن «الخلافة فى الإسلام».. وبعدها يكون الحديث، وعامت «الشيخة» خارجة من بين يديه فى الغيوم، ويسرع «عنتر» إلي «الخلوة» ويتناول كتابا عن «الخلافة فى الإسلام» ويغيب فى سطوره طيلة الليل.. ليفيق علي دقات فوق الباب.. وصيحات الصلاة الصلاة. فيدرك أنه فى الفجر.. ويسرع «عنتر» إلى «الخلوة» ويتناول كتابا عن «الخلافة فى الإسلام» ويغيب فى سطوره طيلة الليل.. ليفيق علي دقات فوق الباب.. وصيحات: الصلاة الصلاة. فيدرك أنه فى الفجر. ويسرع إلى:الصنوار» يتوضأ من مائه الزلال.. وينتعل «القبقاب». وينطلق خارجا من «الخلوة» فى الخلاء. ويصطف وسط لابسي الجلاليب القصيرة البيضاء.. يؤمهم «المنجي» «الأمير». وصوته يترنم عاليا بالقرآن. .ويختنق ويبكي.. وتبكي الجلابيب القصيرة البيضاء. وبعد الصلاة ينطلق لابسو الجلابيب القصيرة البيضاء.. خارجين من مزرعة الدجاج الي الصحراء. ينتظمون فى طابور الرياضة.. يجرون وينطون فوق الحواجز ويصرخون بشعارات الإسلام. ثم يتحلقون حول «المنجي» «الأمير» يعلمهم كيفية التعامل مع «المدفع الرشاش».. وتفجير «القنابل» فى الصحراء.. حتي إذا ما أطلت الشمس علي وجل من قبة السماء.. تراكض لابسو الجلابيب القصيرة البيضاء عائدين إلى مزرعة الدجاج. ودخلوا الى الحجرات الكثيرات المتلاصقات: «مأوى كتائب الجهاد» وأغلقوا عليهم الأبواب. ويحين موعد اللقاء مع «الشيخة».. ويتربع «عنتر» أمامها فوق الحصير.. لقد قرأ الأمس كتابا عن «الخلافة في الإسلام». وهو يري مثلها ضرورة عودة «الخلافة الإسلامية» إلي الديار. وتماوج صوتها الراقص الرقراق: إنه علي الطريق وإنه سيجد حبيبته «عبلة» وحصانه «الأبجر». ويجد اليقين. وعندها يعلم من أباه. وكذلك الرفاق. وحدق «عنتر» فى الخيمة السوداء. لقد سمع قبلا هذا الصوت الراقص الرقراق. فلمن يكون الصوت؟. و «الشيخة» من تكون؟ وتعوم «الشيخة» خارجة من بين يديه في الغيوم. وفي الموعد يسرع اليها. لقد قرأ كل الكتب القديمة الصفراء عن : «الخلافة فى الإسلام». وهو الذي سيقود «كتائب الجهاد».. ليعيد «الخلافة الإسلامية» إلي الديار وتراقص له صوتها الرقراق: إنها تسلمه راية الجهاد ليكون «الأمير». وتأكد ل «عنتر» أن هذا الصوت لها.. وأنها لن تغيب عن سمعه مهما اختبأت منه فى الخيمة السوداء. إنها هي. وقبل أن تعوم خارجة من بين يديه فى الغيوم.. ألقى نفسه عليها.. ومزع عنها الخيمة السوداء.. ليندلع الجسد الأبيض الوهاج. وخفق في «الخلوة» وأضاء. وصرخ: «عبلة».. وصهل حصانه انه «الأبجر» وشب برجليه قبالته فى الهواء. وقفز على ظهره وامتطاه. وقبل أن يردف «عبلة».. انطلقت خارجة من الخلوة مثل شمس فى الصحراء. وانطلق «عنتر» من خلفها فوق حصانه «الأبجر» .. يصرخ عليها. يا «عبلة» لقد عاد الي نسبي. أنا الان: عنتر بن شداد و «عبلة» تركض في الصحراء. تشع الضياء. يا «عبلة» لقد أحضرت اليك مهرك: النوق العصافير.. و «عبلة» تشب لتطير فى السماء. ويلقي نفسه عليها. يضمها إليه، إنها له.. ولن تكون لغيره. هي «عبلته» علي طول التاريخ والأزمان هي تاريخ سيفه وعشقه. ولن تغير «عبلة» من تاريخ «عنتر».. الان. وتتفلص «عبلة» من بين ذراعيه. ليرحل تاريخه عنها. إن لها تاريخها الجديد. وفارسها. ودفعته عنها. ويفيق.. ليجده يدور فى ردهة البيت وسط الغيوم.. ممتطيا ظهر حصانه «الأبجر» جريدة النخل الخضراء الطويلة ممتشقا سيفه «الظامي» جريدة النخل الخضراء القصيرة. »يصهل من فهمه ويصيح: أنا »الأمير العنتر بن شداد.