ويدفع "عنتر بن الزيني" جسده المهزول المفرغ من الحلم.. أمامه.. يطوف به حول ملاعب طفولته وصباه: ساحة الجرن والحدائق والمزارع والحقول والأشجار والأطيار.. يسائلها: لماذا بعد أن سقط الحلم عنه.. نأت عنه؟. ولماذا لم تعد تدق بابه- كما اعتادت- ليلعب معها- كما اعتاد-؟. ولماذا ثقل جسده.. أصبح عبئا عليه.. يجثم فوقه كل ليلة في الفراش.. يكاد يزهق روحه؟. ويصرخ علي ملاعب طفولته وصباه: أعيدي إلي الحلم. أعيدي إلي "عنتر بن شداد" ليمتطي ظهر حصانه "الأبجر".. ويمتشق سيفه "الظامي".. وينطلق إلي (صحراء) (الوسبة) يضرب عنق "الخواجة" "ألبرت" وولده الصبي "ديمتري"... ويوزع أرض "البوسة" علي الفقراء..يقيم العدل بين الناس. أعيدي إلي الحلم. لكن ملاعب طفولته وصباه لاتعيد إليه الحلم.. منها إلي أبيه: "الزيني" "الكلاف".. ليجد أباه "الزيني" "الكلاف". في "زريبته" جسداً بلا حلم.. جاث أسفل أرجل البهائم يتلقف في جرادله الصدئة روثها الذي ينساب من مؤخراها مثل سيل يكاد يغرقه.. فيفر منه إلي أمه "وحيدة" التي تتلقاه بمنقد "القوالح" المشتعلة والبخور.. فيفر منها إلي النهر. أيها النهر: إني جسد بلا حلم. أعد إلي الحلم. فيوحي إليه النهر: الحلم لما يزل برأسك. أخيه.. تحيا به. وفي الليل بحلم: يراه لايزال الصبي الطفل.. يمتطي ظهر حصانه الجريدي.. ويمتشق سيفه الجريدي.. ويصهل بفمه.. بينما أصدقاء طفولته - الشباب: "شندي" و"فضيلة" و"العشري" و"المنجي" و"حسان" و"الساكت".. يمتطون ظهور أحصنة حقيقية تصهل.. ويتسابقون بها. فينادي عليهم: اعطوني حصاني "الأبجر" الذي يصهل أتسابق به معكم. وفي الصباح يركض- علي غير عادته - فوق الطريق الترابي الذي ينضغط بين صفين من حدائق البرتقال.. تظلله أشجار الكافور.. يتلاعب فوق رءوسها الريح.. والظلال فوق الأرض.. فيبدو الطريق لعينيه مثل سرداب تخالطه العتمة والنور.. وينزلق إلي سرداب العتمة والنور.. يجدف فيه.. حتي يطفو -هناك- علي مشارف مدرسته الثانوية بالمركز.. ليجد أصدقاء طفولته -الشباب-: "شندي" و"فضيلة" و"العشري" و"المنجي" و"حسان" و"الساكت".. في انتظاره علي مشارف النور: لقد سمعوا بالأمس النداء وجاءوا إليه بحصانه "الأبجر" الذي يصهل ليمتطيه وليتسابق به معهم. وقادوه إلي شقة "فضيلة" بالمركز.. والتي كانت - في الأصل- شقة شقيقها "حمدي" الشيوعي.. يجتمع برفاق خليته.. ويطبع فيها علي "الرونيو" منشوراته.. حتي قبض عليه البوليس السياسي.. وساقه الي الحبس ليلقي حتقه تحت آلة التعذيب.. ولتئول الشقة والدور إلي شقيقته "فضيلة". وتفتح "فضيلة" باب الشقة ليتدفق إليها الرفاق. كانت الشقة قديمة.. كالحة.. سقفها عادل.. ليس بها غير الأسرة والمقاعد ومكتب ومكتبة قديمة عالية.. غاصة بالكتب عن: الشيوعية ورأس المال وصراع الطبقات و.... ويتحلق الرفاق حول الرفيق "شندي" - رأس الخلية - فيرحب ب"عنتر" الرفيق الجديد.. الذي لولا سياط الإقطاعي "ألبرت" وولده "ديمتري" لما خرج من حلمه الطفولي الطويل.. ليري واقع الوسية الأليم. ومايحدث في الوسية يحدث في "مصر" بحالها. آلاف الإقطاعيات التي أقطعها حكام "مصر" الأجانب إلي الأجانب والمتمصرين. وملايين المصريين يعيشون في فقر وجهل ومرض. ومستعمر "إنجليزي" لعين يدنس بقدمه أرض "القتال". و"ملك" فاسد يعيش لنزواته. وأحزاب مهترئة تماليء السراي. واقع "فاسد" لابد من تغييره. ولن يغيره غير الثورة عليه. الثورة وحدها هي التي تعيد إلي "مصر" وجهها النبيل، توزع الأرض علي الفقراء. وتقطع دابر رأس المال المستغل والإقطاع. ولن يفعل ذلك غير الاشتراكيين. الاشتراكية - وحدها - طوق النجاة. وعلينا أن نروج لها بين طلبة المدرسة الثانوية. ولن يتيسر لنا ذلك - نحن الاشتراكيين - إلا بصحيفة الحائط "النبراس" لسان حال "الإخوان".. والتي لاتدعو إلي ثورة إلي تغيير. ونهض "شندي" فأحضر (فرخا) كبيرا من الورق الأبيض المقوي المصقول وقسمه إلي خانات. وطلب من كل رفيق أن يختار موضوعا عن الاشتراكية في إحدي الخانات. وكتب هو في أعلي الورقة وبالخط الأحمر الكبير: "الشعلة". تحلق الرفاق: "عنتر" و"فضيلة" و"العشري" و"المنجي" و"حسان" حول الرفيق "شندي"0 رأس الخلية- يتدارسون مايجري في مصر المحروسة من إضرابات واحتجاجات.. ومن حرق للقاهرة.. وإعلان للأحكام العرفية في البلاد.. وما أعقب ذلك من قبض علي الشيوعيين والتقدميين والنقابيين الأحرار. ودعا الرفيق "شندي" إلي إضراب في مدرستهم الثانوية.. دعما للمعتقلين الأبطال.. وهتف في طابور الصباح: يحيا اتحاد الطلبة. فغمغت أصوات. فصرخ: عاشت مصر حرة والسودان فصرخت الأصوات فصرخ : يسقط الاستعمار ودفع "شندي" والرفاق بطوابير الطلبة الي باب المدرسة المغلق وفتحوه عنوة. وانطقوا خارجين الي الشارع. وهتف "عنتر": أمام مدرسة البنات: يحيا اتحاد الطلبة والطالبات. فرددت "فضيلة" في مدرستها الثانوية للبنات- في أعلي الشرفة- وسط الطالبات- : يحيا اتحاد الطالبات والطلبة. وفتح الطلبة باب مدرسة البنات.. وتدفقت الطالبات إلي الشارع. والتحمت الطالبات مع الطلبة في مظاهرة يقودها "شندي".. انسابت إلي شوارع "المركز".. حتي إذا ما أصبحت المظاهرة أمام "مركز البوليس" هتف "شندي" يسقط الملك. فاندفعت إلي المظاهرة من داخل "مركز البوليس "فرقة" من الخيالة.. يحمل جنودها فوق الأحصنة عصي الخيزران.. وانهالوا بعصي الخيزران الطويلة علي المتظاهرين في مقدمة المظاهرة.. فتراجع المتظاهرون إلي الوراء. وسمع "عنتر" صرخته: "عنتر بن شداد". وصهيل حصانة "الأبجر". ورآه - حصانة الأبجر- يشب برجليه - قبالته- في الهواء. وقفز إلي ظهره وامتطاه.. وتلقف بيده عصا الخيزران .. وجذبها بقوة.. فأسقط الجندي من فوق الحصان.. و.. وقفز وأسقط الجندي. و.. وتدافع المتظاهرون إلي فرقة الخيالة التي فرت داخلة إلي "مركز البوليس". وتدفق المتظاهرون إلي شوارع "المركز". طافوا بالمعهد الديني وأخرجوا طلبته.. وبالمدارس الإلزامية وأخرجوا طلبتها. وفاضت شوارع "المركز" بالمتظاهرين يقودهم "شندي".. يهتف بسقوط المستعمر اللعين. والملك الفاسد.. وأحزاب السراي. ويدعو إلي توزيع السلاح علي المواطنين للانضمام إلي كتائب الفدائيين في (القنال). والمظاهرة تتسع.. والمتظاهرون يرددون الهتاف.. حتي ليعوم (المركز) كله في بحر من هتاف. ثم يتراجع الهتاف والشمس إلي الوراء ويتناثر المتظاهرون في الشواع الجانبية والحارات. وتهزل المظاهرة حتي لم يبق منها إلا الرفاق: "شندي" و"عنتر" و"فضيلة" و"العشري" و"المنجي" و"حسان"- فر منها الساكت- يمشون في زهو أمام (مركز البوليس).. ويدفعون (الشاويش) (جمعة) إلي تخشيبة (المركز).. ويتلمسون في الضوء الشحيح المصطبة الحجرية إلي جوار الباب.. ويتكومون فوقها صامتين. بينما تساق "فضيلة" إلي حجرة "السلاحليك" لتتكوم فوق الكرسي القديم.. المكسور.. ويكسر "شندي"حلقة الصمت: لقد نجحوا في الخطوة الأولي واستطاعوا أن يدفعوا كتلة الطلبة والطالبات إلي الخروج إلي الشارع.. وإلي التظاهر والإضراب.. ليصبح (مركزهم) الوحيد - رغم الأحكام العرفية- داعما للمعتقلين الأبطال. وقرب رأسه إليهم: إن قريبا له.. ضابط بالجيش.. وعضو بالحزب الشيوعي.. أطلعه في زيارة أخيرة له علي منشور سري لتنظيم الضباط الأحرار بالجيش.. يندد بفساد الحكم.. ويدعو إلي تطهير البلاد. وأسند ظهره إلي الحائط وتمتم كأنما لنفسه: قلبي يحدثني أن ثورة الجيش علي الأبواب. وغاب في صمت إلي الصباح. وفي الصباح فتح الشاويش (جمعة) باب التخشيبة منادياً علي "عنتر" فله زيارة بمكتب الباشا (ضابط المباحث).. وقاده إلي هناك.. ليفاجأ (عنتر) ب(العايق) في مكتب (الباشا).. مرتديا بدلة قديمة واسعة وفوق رأسه قبعة من خوص.. قديمة.. واسعة.. وهو يكتب في إقرار علي نفسه بصفته ولي أمر التلميذ (عنتر الزيني).. يتعهد فيه.. ألا يشتغل (التلميذ) بعد الآن بالسياسة. ويوقع باسمه. ومهنته : ناظر زراعة "الخواجة" "ألبرت". وكاد يصرخ عليه: بأي حق ينتحل صفة ولي أمره؟. لكنه سمعه يرجو (الباشا) أن يفرج عن بقية (التلاميذ) و(التلميذة).. وهو يتعهد له بصفته الشخصية.. ألا يشتغل أي منهم- بعد الآن- بالسياسة. وارتمت عينا (الباشا) فوق أقفاص المانجو الثلاثة- تحت قدميه- والتي حملها "العايق" من (الوسية) هدية له.. وهز رأسه ل"العايق".. ونادي -من مكانه- علي الشاويش (جمعة" أن يفرج عن (التلاميذ) و(التلميذة). وفي المساء -بالمقر- تحلق الرفاق: "عنتر" و"فضيلة" و"العشري" و"المنجي" و"حسان" و"الساكت".. حول الرفيق "شندي"- رأس الخلية- يتدارسون سبل الوصول إلي عقول كتلة العمال.. وتبصيرهم بحقوقهم التي سلبها منهم الرأسماليون الأجانب والمتمصرون الشركاء.. وتركاهم إلي الفقر والاحيتاج.. والعمل علي تجييشهم ليكونوا قوة الاشتراكية الضاربة.. ووسيلتها إلي الثورة والتغيير.